الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٢ - الصفحة ٤١٦
وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون. والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون. وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين. ومن ثمرات النخيل والأعناب
____________________
للناصر لهم على أبلغ الوجوه، ويجوز أن يرجع الضمير إلى مشركي قريش، وأنه زين للكفار قبلهم أعمالهم فهو ولي هؤلاء لأنهم منهم، ويجوز أن يكون على حذف المضاف: أي فهو ولي أمثالهم اليوم (وهدى ورحمة) معطوفان على محل لتبين إلا أنهما انتصبا على أنهما مفعول لهما لأنهما فعلا الذي أنزل الكتاب. ودخل اللام على لتبين لأنه فعل المخاطب لا فعل المنزل، وإنما ينتصب مفعولا له ما كان فاعل الفعل المعل. والذي اختلفوا فيه البعث لأنه كان فيهم من يؤمن به ومنهم عبد المطلب، وأشياء من التحريم والتحليل والإنكار والإقرار (لقوم يسمعون) سماع إنصاف وتدبر، لأن من لم يسمع بقلبه فكأنه أصم لا يسمع. ذكر سيبويه الأنعام في باب ما لا ينصرف في الأسماء المفردة الواردة على أفعال كقولهم ثوب أكياش، ولذلك رجع الضمير إليه مفردا، وأما في بطونها في سورة المؤمنين فلأن معناه الجمع، ويجوز أن يقال في الأنعام وجهان: أحدهما أن يكون تكسير نعم كأجبال في جبل، وأن يكون اسما مفردا مقتضيا لمعنى الجمع كنعم، فإذا ذكر فكما يذكر نعم في قوله:
في كل عام نعم تحوونه * يلقحه قوم وتنتجونه وإذا أنث ففيه وجهان: أنه تكسير نعم، وأنه في معنى الجمع. وقرئ نسقيكم بالفتح والضم وهو استئناف كأنه قيل كيف العبرة؟ فقيل نسقيكم (من بين فرث ودم) أي يخلق الله اللبن وسيطا بين الفرث والدم يكتنفانه وبينه وبينها برزخ من قدرة الله لا يبغي أحدهما عليه بلون ولا طعم ولا رائحة بل هو خالص من ذلك كله. قيل إذا أكلت البهيمة العلف فاستقر في كرشها طبخته، فكان أسفله فرثا وأوسطه لبنا وأعلاه دما، والكبد مسلطة على هذه الأصناف الثلاثة تقسمها، فتجري الدم في العروق، واللبن في الضروع، وتبقى الفرث في الكرش، فسبحان ما أعظم قدرته وألطف حكمته لمن تفكر وتأمل؟ وسئل شقيق عن الإخلاص. فقال: تمييز العمل من العيوب كتمييز اللبن من بين فرث ودم (سائغا) سهل المرور في الحلق. ويقال: لم يغص أحد باللبن قط. وقرئ سيغا بالتشديد وسيغا بالتخفيف كهين ولين. فإن قلت: أي فرق بين من الأولى والثانية؟ قلت: الأولى للتبعيض لأن اللبن بعض ما في بطونها كقولك: أخذت من مال زيد ثوبا، والثانية لابتداء الغاية لأن بين الفرث والدم مكان الإسقاء الذي منه يبتد، فهو صلة لنسقيكم كقولك سقيته من الحوض، ويجوز أن يكون حالا من قوله لبنا مقدما عليه فيتعلق بمحذوف: أي كائنا من بين فرث ودم، ألا ترى أنه لو تأخر فقيل لبنا من بين فرث ودم كان صفة له، وإنما قدم لأنه موضع العبرة فهو قمن بالتقديم. وقد احتج بعض من يرى أن المني طاهر على من جعله نجسا لجريه في مسلك البوم بهذه الآية، وأنه ليس بمستنكر أن يسلك مسلك البوم وهو طاهر كما خرج من بين فرث ودم طاهرا. فإن قلت: بم تعلق قوله (ومن ثمرات النخيل والأعناب). قلت: بمحذوف
(٤١٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 411 412 413 414 415 416 417 418 419 420 421 ... » »»