الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٢ - الصفحة ٣٦٧
فيضل من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم. ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور. وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب
____________________
على كتاب واحد، واجتهادهم في تعلم لفظه وتعلم معانيه، وما يتشعب من ذلك من جلائل الفوائد، وما يتكاثر في إتعاب النفوس وكد القرائح فيه من القرب والطاعات المفضية إلى جزيل الثوب، ولأنه أبعد من التحريف والتبديل، وأسلم من التنازع والاختلاف، ولأنه لو نزل بألسنة الثقلين كلها مع اختلافها وكثرتها وكان مستقلا بصفة الإعجاز في كل واحد منها وكلم الرسول العربي كل أمة بلسانها كما كلم أمته التي هو منها يتلوه عليهم معجزا، لكان ذلك أمرا قريبا من الإلجاء. ومعنى بلسان قومه: بلغة قومه. وقرئ بلسن قومه، واللسن واللسان كالريش والرياش بمعنى اللغة. وقرئ بلسن قومه بضم اللام والسين مضمومة أو ساكنة، وهو جمع لسان كعماد وعمد وعمد على التخفيف. وقيل الضمير في قومه لمحمد صلى الله عليه وسلم، ورووه عن الضحاك وأن الكتب كلها نزلت بالعربية، ثم أداها كل نبي بلغة قومه، وليس بصحيح لأن قوله - ليبين لهم - ضمير القوم وهم العرب، فيؤدي إلى أن الله أنزل التوراة من السماء بالعربية ليبين للعرب وهذا معنى فاسد (فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء) كقوله - فمنكم كافر ومنكم مؤمن - لأن الله لا يضل إلا من يعلم أنه لن يؤمن، ولا يهدي إلا من يعلم أنه يؤمن، والمراد بالإضلال التخلية ومنع الألطاف، وبالهداية التوفيق واللطف، فكان ذلك كناية عن الكفر والإيمان (وهو العزيز) فلا يغلب على مشيئته (الحكيم) فلا يخذل إلا أهل الخذلان، ولا يلطف إلا بأهل اللطف (أن أخرج) بمعنى: أي أخرج لأن الإرسال فيه معنى القول كأنه قيل أرسلناه وقلنا له أخرج. ويجوز أن تكون أن الناصبة للفعل، وإنما صلح أن توصل بفعل الأمر لأن الغرض وصلها بما تكون معه في تأويل المصدر وهو الفعل والأمر وغيره سواء في الفعلية، والدليل على جواز أن تكون الناصبة للفعل قولهم أوعز عليه بأن افعل، فأدخلوا عليها حرف الجر، وكذلك التقدير بأن أخرج قومك (وذكرهم بأيام الله) وأنذرهم بوقائعه التي وقعت على الأمم قبلهم قوم نوح وعاد وثمود ومنه أيام العرب لحروبها وملاحمها كيوم ذي قار ويوم الفجار ويوم قضة وغيرها وهو الظاهر. وعن ابن عباس رضي الله عليهما: نعماؤه وبلاؤه، فأما نعماؤه فإنه ظلل عليهم الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى وفلق لهم البحر، وأما بلاؤه فإهلاك القرون (لكل صبار شكور) يصبر على بلاء الله ويشكر نعماءه، فإذا سمع بما أنزل الله من البلاء على الأمم أو أفاض عليهم من النعم تنبه على ما يجب عليه من الصبر والشكر واعتبر.
وقيل أراد لكل مؤمن، لأن الشكر والصبر من سجاياهم تنبيها عليهم (إذ أنجاكم) ظرف للنعمة بمعنى الإنعام: أي إنعامه عليكم ذلك الوقت. فإن قلت: هل يجوز أن ينتصب بعليكم؟ قلت: لا يخلو من أن يكون صلة للنعمة بمعنى الإنعام، أو غير صلة إذا أردت بالنعمة العطية، فإذا كان صلة لم يعمل فيه، وإذا كان غير صلة بمعنى اذكروا نعمة الله مستقرة عليكم عمل فيه، ويتبين الفرق بين الوجهين أنك إذا قلت نعمة الله عليكم، فإن جعلته صلة لم يكن كلاما حتى تقول فائضة أو نحوها، وإلا كان كلاما، ويجوز أن يكون إذ بدلا من نعمة الله: أي اذكروا وقت
(٣٦٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 362 363 364 365 366 367 368 369 370 371 372 ... » »»