الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٢ - الصفحة ٣٥٦
بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال. للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد، أفمن يعلم
____________________
لا يغالب وما عداه مربوب ومقهور. هذا مثل ضربه الله للحق وأهله والباطل وحزبه كما ضرب الأعمى والبصير والظلمات النور مثلا لهما، فمثل الحق وأهله بالماء الذي ينزله من السماء فتسيل به أودية الناس فيحيون به وينفعهم أنواع المنافع، وبالفلز الذين ينتفعون به في صوغ الحلى منه واتخاذ الأواني والآلات المختلفة، ولو لم يكن إلا الحديد الذي فيه البأس الشديد لكفى به، وأن ذلك ماكث في الأرض باق بقاء ظاهرا يثبت الماء في منافعه وتبقى آثاره في العيون والآبار والجيوب والثمار التي تنبت به مما يدخر ويكنز، وكذلك الجواهر تبقى أزمنة متطاولة، وشبه الباطل في سرعة اضمحلاله ووشك زواله وانسلاخه على المنفعة بزبد السيل الذي يرمى به، وبزبد الفلز الذي يطفو فوقه إذا أذيب. فإن قلت: لم نكرت الأودية؟ قلت: لأن المطر لا يأتي إلا على طريق المناوبة بين البقاع فيسيل بعض أودية الأرض دون بعض. فإن قلت: فما معنى قوله (بقدرها)؟ قلت: بمقدارها الذي عرف الله أنه نافع للممطور عليهم غير ضار، ألا ترى إلى قوله - وأما ما ينفع الناس - لأنه ضرب المطر مثلا للحق، فوجب أن يكون مطرا خالصا للنفع خاليا من المضرة، ولا يكون كبعض الأمطار والسيول الجواحف. فإن قلت: فما فائدة قوله (ابتغاء حلية أو متاع)؟ قلت: الفائدة فيه كالفائدة في قوله (بقدرها) لأنه جمع الماء والفلز في النفع في قوله (وأما ما ينفع الناس) لأن المعنى، وأما ما ينفعهم من الماء والفلز فذكر وجه الانتفاع بما يوقد عليه منه ويذاب وهو الحلية والمتاع، وقوله (ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع) عبارة جامعة لأنواع الفلز مع إظهار الكبرياء في ذكره على وجه التهاون به كما هو هجيرى الملوك، نحو ما جاء في ذكر الآجر - أو قد لي يا هامان على الطين - ومن لابتداء الغاية، أي ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماء، أو للتبعيض بمعنى: وبعضه زبدا رابيا منتفحا مرتفعا على وجه السيل (جفاء) يجفؤه السيل: أي يرمى به، وجفأت القدر بزبدها وأجفأ السيل وأجفل. وفى قراءة رؤبة ابن العجاج جفالا. وعن أبي حاتم لا يقرأ بقراءة رؤبة لأنه كان يأكل الفأر. وقرئ يوقدون بالياء: أي يوقد الناس (للذين استجابوا) اللام متعلقة بيضرب: أي كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين الذين استجابوا وللكافرين الذين لم يستجيبوا: أي هما مثلا الفريقين، و (الحسنى) صفة لمصدر استجابوا أي استجابوا الاستجابة الحسنى، وقوله (لو أن لهم) كلام مبتدأ في ذكر ما أعد لغير المستجيين، وقيل قدتم الكلام عند قوله - كذلك يضرب الله الأمثال - وما بعده كلام مستأنف والحسنى مبتدأ خبره للذين استجابوا. والمعنى: لهم المثوبة الحسنى وهى الجنة، والذين لم يستجيبوا مبتدأ خبره لو مع ما في حيزه، و (سوء الحساب) المناقشة فيه، وعن النخعي أن يحاسب الرجل بذنبه كله لا يغفر منه شئ. دخلت همزة الإنكار على الفاء في قوله (أفمن يعلم) الإنكار أن تقع شبهة بعد ما ضرب
(٣٥٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 351 352 353 354 355 356 357 358 359 360 361 ... » »»