الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٢ - الصفحة ٣٧١
بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد. واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد.
من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد. يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ.
____________________
بالأرض: أرض الظالمين وديارهم ونحوه - وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها - وأورثكم أرضهم وديارهم -. وعن النبي صلى الله عليه وسلم " من آذى جاره ورثه الله داره " ولقد عاينت هذا في مدة قريبة، كان لي خال يظلمه عظيم القرية التي أنا منها ويؤذيني فيه، فمات ذلك العظيم وملكني الله ضيعته، فنظرت يوما إلى أبناء خالي يترددون فيها ويدخلون في دورها ويخرجون ويأمرون وينهون، فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدثتهم به وسجدنا شكرا لله (ذلك) إشارة إلى ما قضى به الله من إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين ديارهم: أي ذلك الأمر حق (لمن خاف مقامي) موقفي وهو موقف الحساب، لأنه موقف الله الذي يقف فيه عباده يوم القيامة، أو على إقحام المقام. وقيل خاف قيامي عليه وحفظي لأعماله. والمعنى: أن ذلك حق للمتقين كقوله - والعاقبة للمتقين - (واستفتحوا) واستنصروا الله على أعدائهم - إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح - أو استحكموا الله وسألوه القضاء بينهم من الفتاحة وهي الحكومة كقوله تعالى - ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق - وهو معطوف على أوحى إليهم. وقرئ واستفتحوا بلفظ الأمر وعطفه على لنهلكن: أي أوحى إليهم ربهم وقال لهم لنهلكن وقال لهم استفتحوا (وخاب كل جبار عنيد) معناه: فنصروا وظفروا وأفلحوا، وخاب كل جبار عنيد وهم قومهم. وقيل واستفتح الكفار على الرسل ظنا منهم بأنهم على الحق والرسل على الباطل، وخاب كل جبار عنيد منهم ولم يفلح باستفتاحه (من ورائه) من بين يديه، قال:
عسى الكرب الذي أمسيت فيه * يكون رواءه فرج قريب وهذا وصف حاله وهو في الدنيا لأنه مرصد لجهنم، فكأنها بين يديه وهو على شفيرها، أو وصف حاله في الآخرة حين يبعث ويوقف. فإن قلت: علام عطف (ويسقى)؟ قلت: على محذوف تقديره: من روائه جهنم يلقى فيها ما يلقى، ويسقى من ماء صديد كأنه أشد عذابها، فخصص بالذكر مع قوله - ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت - فإن قلت: ما وجه قوله تعالى (من ماء صديد)؟ قلت: صديد عطف بيان لماء، قال ويسقى من ماء، فأبهمه إبهاما ثم بينه بقوله صديد وهو ما يسيل من جلود أهل النار (يتجرعه) يتكلف جرعه (ولا يكاد يسيغه) دخل كاد للمبالغة: يعني ولا يقارب أن يسيغه فكيف تكون الإساغة كقوله - لم يكد يراها - أي لم يقرب من رؤيتها فكيف يراها (ويأتيه الموت من كل مكان) كأن أسباب الموت وأصنافه كلها قد تألبت عليه وأحاطت به من جميع الجهات تفظيعا لما يصيبه من الآلام. وقيل من كل مكان من جسده حتى من إبهام رجله، وقيل من أصل كل شعرة (ومن ورائه) ومن بين يديه (عذاب غليظ) أي في كل وقت يستقبله يتلقى عذابا أشد مما قبله وأغلظ. وعن الفضيل: هو قطع الأنفاس وحبسها في الأجساد، ويحتمل أن يكون أهل مكة قد استفتحوا أي استمطروا، والفتح المطر في سني القحط التي أرسلت عليهم بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يسقوا، يذكر سبحانه ذلك، وأنه خيب رجاء كل جبار عنيد، وأنه يسقى في جهنم بدل سقياه ماء آخر وهو صديد أهل النار، واستفتحوا على هذا التفسير كلام مستأنف منقطع عن حديث الرسل وأممهم. هو مبتدأ محذوف الخبر عند
(٣٧١)
مفاتيح البحث: الموت (1)، الخوف (1)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 366 367 368 369 370 371 372 373 374 375 376 ... » »»