الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٢ - الصفحة ٣٤٥
لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم. رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين. ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم
____________________
نخسه (لطيف لما يشاء) لطيف التدبير لأجله رفيق حتى يجئ على وجه الحكمة والصواب. وروى أن يوسف أخذ بيد يعقوب فطاف به في خزائنه، فأدخله خزائن الورق والذهب وخزائن الحلى وخزائن الثياب وخزائن السلاح وغير ذلك، فلما أدخله خزانة القراطيس قال: يا بني ما أعقك، عندك هذه القراطيس وما كتبت إلى علي ثمان مراحل؟ قال: أمرني جبريل، قال: أو ما تسأله؟ قال: أنت أبسط إليه منى فسله، قال جبريل عليه السلام الله تعالى أمرني بذلك لقولك - وأخاف أن يأكله الذئب - قال: فهلا خفتني. وروى أن يعقوب أقام معه أربعا وعشرين سنة ثم مات، وأوصى أن يدفنه بالشام إلى جنب أبيه إسحاق، فمضى بنفسه ودفنه ثمة، ثم عاد إلى مصر وعاش بعد أبيه ثلاثا وعشرين سنة، فلما تم أمره وعلم أنه لا يدوم له طلبت نفسه الملك الدائم الخالد فتاقت نفسه إليه فتمنى الموت. وقيل ما تمناه نبي قبله ولا بعده، فتوفاه الله طيبا طاهرا فتخاصم أهل مصر وتشاحوا في دفنه كل يحب أن يدفن في محلتهم حتى هموا بالقتال، فرأوا من الرأي أن عملوا له صندوقا من مرمر وجعلوه فيه ودفنوه في النيل بمكان يمر عليه الماء ثم يصل إلى مصر ليكونوا كلهم فيه شرعا واحدا، وولد له أفراثيم وميشا، وولد لأفراثيم نون ولنون يوشع فتى موسى، ولقد توارثت الفراعنة من العماليق بعده مصر، ولم يزل بنو إسرائيل تحت أيديهم على بقايا دين يوسف وآبائه إلى أن بعث الله موسى صلى الله عليه وسلم. من في (من الملك) و (من تأويل الأحاديث) للتبعيض لأنه لم يعط إلا بعض ملك الدنيا أو بعض ملك مصر وبعض التأويل (أنت وليي) أنت الذي تتولاني بالنعمة في الدارين وبوصل الملك الفاني بالملك الباقي (توفني مسلما) طلب للوفاة على حال الإسلام، ولأن يختم له بالخير والحسنى كما قال يعقوب لولده - ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون - ويجوز أن يكون تمنيا للموت على ما قيل (وألحقني بالصالحين) من آبائي أو على العموم. وعن عمر بن عبد العزيز أن ميمون بن مهران بات عنده فرآه كثير البكاء والمسألة للموت فقال له: صنع الله على يديك خيرا كثيرا، أحييت سننا وأمت بدعا وفى حياتك خير وراحة للمسلمين، فقال: أفلا أكون كالعبد الصالح لما أقر الله عينه وجمع له أمره قال - توفني مسلما وألحقني بالصالحين -. فإن قلت: علام انتصب فاطر السماوات؟ قلت: على أنه وصف لقوله رب كقولك أخا زيد حسن الوجه أو على النداء (ذلك) إشارة إلى ما سبق من نبأ يوسف، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومحله الابتداء، وقوله (من أنباء الغيب نوحيه إليك) خبران، ويجوز أن يكون اسما موصولا بمعنى الذي، ومن أنباء الغيب صلته، ونوحيه الخبر، والمعنى: إن هذا النبأ غيب لم يحصل لك إلا من جهة الوحي، لأنك لم تحضر بنى يعقوب حين أجمعوا أمرهم وهو إلقاؤهم أخاهم في البئر كقوله - وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب - وهذا تهكم بقريش وبمن كذبه، لأنه لم يخف على أحد من المكذبين أنه لم يكن من حملة هذا الحديث وأشباهه ولا لقى فيها أحدا
(٣٤٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 340 341 342 343 344 345 346 347 348 349 350 ... » »»