الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٢ - الصفحة ٢٩٨
إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين. وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون. ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين. إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم
____________________
إيقاعه بهم لإشفاقهم (إلا قليلا) استثناء منقطع معناه: ولكن قليلا ممن أنجينا من القرون نهوا عن الفساد وسائرهم تاركون للنهي. ومن في (ممن أنجينا) حقها أن تكون للبيان لا للتبعيض لأن النجاة إنما هي للناهين وحدهم بدليل قوله تعالى - أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا - فإن قلت: هل لوقوع هذا الاستثناء متصلا وجه يحمل عليه؟ قلت: إن جعلته متصلا على ما عليه ظاهر الكلام كان المعنى فاسدا لأنه يكون تحضيضا لأولى البقية على النهى عن الفساد إلا للقليل من الناجين منهم كما تقول: هلا قرأ قومك القرآن إلا الصلحاء منهم، تريد استثناء الصلحاء من المحضضين على قراءة القرآن. وإن قلت في تحضيضهم على النهى عن الفساد معنى نفيه عنهم فكأنه قيل : ما كان من القرون أولو بقية إلا قليلا كان استثناء متصلا ومعنى صحيحا، وكان انتصابه على أصل الاستثناء، وأن كان الأفصح أن يرفع على البدل (واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه) أراد بالذين ظلموا تاركي النهى عن المنكرات: أي لم يهتموا بما هو ركن عظيم من أركان الدين وهو الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وعقدوا هممهم بالشهوات واتبعوا ما عرفوا فيه التنعم والتترف من حب الرياسة والثروة وطلب أسباب العيش والهنئ، ورفضوا ما وراء ذلك ونبذوه وراء ظهورهم. وقرأ أبو عمرو في رواية الجعفي: وأتبع الذين ظلموا، يعنى وأتبعوا جزاء ما أترفوا فيه. ويجوز أن يكون المعنى في القراءة المشهورة أنهم اتبعوا جزاء إترافهم، وهذا معنى قوى لتقدم الإيحاء كأنه قيل: إلا قليلا ممن أنجينا منهم وهلك السائر. فإن قلت: علام عطف قوله - واتبع الذين ظلموا -؟
قلت: إن كان معناه واتبعوا الشهوات كان معطوفا على مضمر، لأن المعنى إلا قليلا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد، واتبع الذين ظلموا شهواتهم، فهو عطف على نهوا، وإن كان معناه: واتبعوا جزاء الإتراف، فالواو للحال كأنه قيل: أنجينا القليل وقد اتبع الذين ظلموا جزاءهم. فأن قلت: فقوله (وكانوا مجرمين). قلت: على أترفوا: أي اتبعوا الإتراف، وكونهم مجرمين لأن تابع الشهوات مغمور بالآثام، أو أريد بالإجرام إغفالهم للشكر أو على اتبعوا: أي اتبعوا شهواتهم وكانوا مجرمين بذلك، ويجوز أن يكون اعتراضا وحكما عليهم بأنهم قوم مجرمين (كان) بمعنى صح واستقام. واللام لتأكيد النفي و (بظلم) حال من الفاعل، والمعنى: واستحال في الحكمة أن يهلك الله القرى ظالما لها (وأهلها) قوم (مصلحون) تنزيها لذاته عن الظلم وإيذانا بأن إهلاك المصلحين من الظلم. وقيل الظلم الشرك ومعناه: أنه لا يهلك القرى بسبب شرك أهلها وهم مصلحون يتعاطون الحق فيما بينهم، ولا يضمون إلى شركهم فساد آخر. (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة) يعنى لاضطرهم إلى أن يكونوا أهل أمة واحدة: أي ملة واحدة وهى ملة الإسلام كقوله - إن هذه أمتكم أمة واحدة - وهذا الكلام يتضمن نفى الاضطرار، وأنه لم يضطرهم إلى الاتفاق على دين الحق، ولكنه مكنهم من الاختيار الذي هو أساس التكليف، فاختار بعضهم الحق وبعضهم الباطل، فاختلفوا فلذلك قال (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك) إلا ناسا هداهم الله ولطف بهم فاتفقوا على دين الحق غير مختلفين فيه (ولذلك خلقهم) ذلك إشارة إلى ما دل عليه الكلام الأول
(٢٩٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 293 294 295 296 297 298 299 300 301 302 303 ... » »»