الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٢ - الصفحة ٢٩٤
إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد. وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ. فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل
____________________
الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء - ولأنه لابد لأهل الآخرة مما يقلهم ويظلهم، إما سماء يخلقها الله أو يظلهم العرش، وكل ما أظلك فهو سماء. والثاني أن يكون عبارة عن التأييد ونفى الانقطاع كقول العرب: ما دام تعار، وما أقام ثبير، وما لاح كوكب، وغير ذلك من كلمات التأبيد. فأن قلت: فما معنى الاستثناء من الخلود في قوله (إلا ما شاء ربك) وقد ثبت خلود أهل الجنة والنار في الأبد من غير استثناء؟ قلت: هو استثناء من الخلود في عذاب النار ومن الخلود في نعيم الجنة، وذلك أن أهل النار لا يخلدون في عذاب النار وحده، بل يعذبون بالزمهرير وبأنواع من العذاب سوى عذاب النار بما هو أغلظ منها كلها، وهو سخط الله عليهم وخسؤه لهم وإهانته أياهم. وكذلك أهل الجنة لهم سوى الجنة ما هو أكبر منها وأجل موقعا منهم، وهو رضوان الله كما قال - وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر - ولهم ما يتفضل الله به عليهم سوى ثواب الجنة مما لا يعرف كنه إلا هو، فهو المراد بالاستثناء. والدليل عليه قوله - عطاء غير مجذوذ - ومعنى قوله في مقابلته (إن ربك فعال لما يريد) أنه يفعل بأهل النار ما يريد من العذاب كما يعطى أهل الجنة عطاءة الذي لا انقطاع له، فتأمله فإن القرآن يفسر بعضه بعضا، ولا يخدعنك عنه قول المجبرة: إن المراد بالاستثناء خروج أهل الكبائر من النار بالشفاعة، فإن الاستثناء الثاني ينادى على تكذيبهم ويسجل بافترائهم، وما ظنك بقوم نبذوا كتاب الله لما روى لهم بعض النوابت عن عبد الله بن عمرو بن العاص: ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابا. وقد بلغني أن من الضلال من اغتر بهذا الحديث فاعتقد أن الكفار لا يخلدون في النار، وهذا ونحوه والعياذ بالله من الخذلان المبين، زادنا الله هداية إلى الحق ومعرفة بكتابة وتنبيها على أن نعقل عنه. ولئن صح هذا عن ابن ابن العاص فمعناه أنهم يخرجون من حر النار إلى برد الزمهرير، فذلك خلو جهنم وصفق أبوابها. وأقول: ما كان لابن العاص عمرو في سيفيه ومقاتلته بهما علي بن أبي طالب رضي الله عنه ما يشغله عن تسيير هذا الحديث (غير مجذوذ) غير مقطوع ولكنه ممتد إلى غير نهاية كقوله - لهم أجر غير ممنون - لما قص قصص عبدة الأوثان وذكر ما أحل بهم من نقمه وما أعد لهم من عذابه قال (فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء) أي فلا تشك بعد ما أنزل عليك من هذه القصص في سوء عاقبة عبادتهم وتعرضهم بها لما أصاب أمثالهم قبلهم، تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعدة بالانتقام منهم ووعيدا لهم، ثم قال (ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم) يريد أن حالهم في الشرك مثل حال آبائهم من غير تفاوت بين الحالين، وقد بلغك ما نزل بآبائهم فسينزلن بهم مثله، وهو استئناف معناه تعليل النهى عن المرية و (ما) في مما وكما يجوز أن تكون
(٢٩٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 289 290 291 292 293 294 295 296 297 298 299 ... » »»