الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٢ - الصفحة ٢٩٣
وما نؤخره إلا لأجل معدود. يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقى وسعيد.
فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق. خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض
____________________
وصف ذلك اليوم بالهول والعظم وتميزه من بين الأيام، فإن جعلته مشهودا في نفسه فسائر الأيام كذلك مشهودات كلها، ولكن يجعل مشهودا فيه حتى يحصل التميز كما تميز يوم الجمعة عن أيام الأسبوع بكونه مشهودا فيه دونها، ولم يجز أن يكون مشهودا في نفسه لأن سائر أيام الأسبوع مثله يشهدها كل من يشهده وكذلك قوله - فمن شهد منكم الشهر فليصمه - الشهر منتصف ظرفا لا مفعولا به، وكذلك الضمير في فليصمه. والمعنى: فمن شهد منكم في الشهر فليصمه فيه: يعنى فمن كان منكم مقيما حاضرا لوطنه في شهر رمضان فليصم فيه، ولو نصبته مفعولا فالمسافر والمقيم كلاهما يشهدان الشهر، لا يشهده المقيم ويغيب عنه المسافر. الأجل يطلق على مدة التأجيل كلها وعلى منتهاها فيقولون: انتهى الأجل وبلغ الأجل آخره، ويقولون حل الأجل - فإذا جاء أجلهم - يراد آخر مدة التأجيل، والعد إنما هو للمدة لا لغايتها ومنتهاها، فمعنى قوله (وما نؤخره إلا لأجل معدود) إلا لانتهاء مدة معدودة بحذف المضاف. وقرئ وما يؤخره بالياء. قرئ يوم يأت بغير ياء ونحوه قولهم لا أدر حكاه الخليل وسيبويه، وحذف الياء والاجتزاء عنها بالكسرة كثير في لغة هذيل. فإن قلت: فاعل يأتي ما هو؟ قلت: الله عز وجل كقوله - هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله - أو يأتي ربك - وجاء ربك - وتعضده قراءة من قرأ: وما يؤخره بالياء وقوله بإذنه. ويجوز أن يكون الفاعل ضمير اليوم كقوله تعالى - أن تأتيهم الساعة - فإن قلت: بما انتصب الظرف؟ قلت: إما أن ينتصب بلا تكلم، وإما بإضمار أذكر، وإما بالانتهاء المحذوف في قوله - إلا لأجل معدود أي ينتهى الأجل يوم يأتي. فإن قلت: فإذا جعلت الفاعل ضمير اليوم فقد جعلت اليوم وقتا لإتيان اليوم وحددت الشئ بنفسه؟ قلت المراد إتيان هو له وشدائده (لاتكلم) لا تتكلم وهو نظير قوله - لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن -. فإن قلت: كيف يوفق بين هذا وبين قوله تعالى - يوم تأتى كل نفس تجادل عن نفسها - وقوله تعالى - هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون -؟ قلت: ذلك يوم طويل له مواقف ومواطن: ففي بعضها يجادلون عن أنفسهم، وفى بعضها يكفون عن الكلام فلا يؤذن لهم، وفى بعضها يؤذن لهم فيتكلمون، وفى بعضها يختم على أفواههم وتكلمهم أيديهم وتشهد أرجلهم (فمنهم) الضمير لأهل الموقف، ولم يذكروا لأن ذلك معلوم ولأن قوله - لاتكلم نفس - يدل عليه، وقد مر ذكر الناس في قوله - مجموع له الناس -. والشقى الذي وجبت له النار لإساءته. والسعيد الذي وجبت له الجنة لإحسانه. قراءة العامة بفتح الشين. وعن الحسن شقوا بالضم كما قرئ سعدوا. والزفير: إخراج النفس. والشهيق: رده، قال الشماخ:
بعيد مدى التطريب أول صوته زفير ويتلوه شهيق محشرج (ما دامت السماوات والأرض) فيه وجهان: أحدهما أن تراد سماوات الآخرة وأرضها وهى دائمة مخلوقة للأبد.
والدليل على أن لها سماوات وأرضا قوله تعالى - يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات - وقوله - وأورثنا
(٢٩٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 288 289 290 291 292 293 294 295 296 297 298 ... » »»