الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٢ - الصفحة ٢٨٨
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب. ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد. واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربى رحيم ودود. قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول
____________________
(وما توفيقي إلا بالله) وما كوني موفقا لإصابة الحق فيما آني وأذروا وقوعه موافقا لرضا الله إلا بمعونته وتأييده.
والمعنى: أنه استوفق ربه في إمضاء الأمر على سننه، وطلب منه التأييد والأظهار على عدوه، وفى ضمنه تهديد الكفار وحسم لأطماعهم فيه. جرم مثل كسب في تعديه إلى مفعول واحد وإلى مفعولين، تقول جرم ذنبا وكسبه وجرمته ذنبا وكسبته إياه، قال * جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا * ومنه قوله تعالى (لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم) أي لا يكسبنكم شقاقي إصابة العذاب. وقرأ ابن كثير بضم الياء من أجرامته ذنبا: إذا جعلته جارما له:
أي كاسبا، وهو منقول من جرم المتعدى إلى مفعول واحد كما نقل أكسبه المال من كسب المال، وكما لا فرق بين كسبته مالا وأكسبته إياه، فكذلك لا فرق بين جرمته ذنبا وأجرمته إياه، والقراءتان مستويتان في المعنى لا تفاوت بينهما، إلا أن المشهورة أفصح لفظا، كما أن كسبته مالا أفصح من أكسبته، والمراد بالفصاحة أنه على السنة الفصحاء من العرب الموثوق بعربيتهم أدور وهم له أكثر استعمالا. وقرأ أبو حياة ورويت عن نافع (مثل ما أصاب) بالفتح لإضافته إلى غير متمكن كقوله * لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت * (وما قوم لوط منكم ببعيد) يعنى أنهم أهلكوا في عهد قريب من عهدكم فهم أقرب الهالكين منكم، أو لا يبعدون منكم في الكفر والمساوى وما يستحق به الهلاك. فإن قلت: ما لبعيد لم يرد على ما يقتضيه قوم من حمله على لفظه أو معناه. قلت: إما أن يراد وما إهلاكهم ببعيد، أو ما هم بشئ بعيد أو بزمان أو مكان بعيد، ويجوز أن يسوى في قريب وبعيد وقليل وكثير بين المذكر والمؤنث لورودها على زنة المصادر التي هي الصهيل والنهيق ونحوها (رحيم ودود) عظيم الرحمة للتائبين فاعل بهم ما يفعل البليغ المودة بمن يوده من الإحسان والإجمال (ما نفقه) ما نفهم (كثيرا مما تقول) لأنهم كانوا لا يلقون إليه إذهانهم رغبة عنه وكراهية له كقوله - وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه - أو كانوا بفقهونه ولكنهم لم يقبلوه فكأنهم لم يفقهوه، أو قالوا ذلك على وجه الاستهانة به كما يقول الرجل لصاحبه إذا لم يعبأ بحديثه: ما أدرى ما تقول أو جعلوا كلامه هذيانا وتخليطا لا ينفهم كثير منه، وكيف لا ينفهم كلامه وهو خطيب الأنبياء؟ وقيل كان الثغ
(٢٨٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 283 284 285 286 287 288 289 290 291 292 293 ... » »»