الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٢ - الصفحة ١٩٥
فرحون. قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا، وعلى الله فليتوكل المؤمنون.
قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون. قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم
____________________
فرحون) مسرورون، وقيل تولوا: أعرضوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قرأ ابن مسعود رضي الله عنه (قل هل يصيبنا). وقرأ طلحة رضي الله عنه هل يصيبنا بتشديد الياء، ووجهه أن يكون يفيعل لا يفعل لأنه من بنات الواو لقولهم الصواب وصاب السهم يصوب ومصاوب في جمع مصيبة فحق يغعل منه يصوب، ألا ترى إلى قولهم صوب رأيه إلا أن يكون من لغة من يقول صاب السهم يصيب ومن قوله:
* أسهمي الصائبات والصيب * واللام في قوله (إلا ما كتب الله لنا) مفيدة معنى الاختصاص كأنه قيل: لن يصيبنا إلا ما اختصنا الله بإثباته وإيجابه من النصرة عليكم أو الشهادة، ألا ترى إلى قوله (هو مولانا) أي الذي يتولانا ونتولاه - ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم - (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) وحق المؤمنين أن لا يتوكلوا على غير الله فليفعلوا ما هو حقهم (إلا إحدى الحسنيين) إلا إحدى العاقبتين اللتين كل واحدة منهما هي حسنى العواقب وهما النصرة والشهادة (ونحن نتربص بكم) إحدى السوأتين من العواقب: إما (أن يصيبكم الله بعذاب من عنده) وهو قارعة من السماء كما نزلت على عاد وثمود (أو) بعذاب (بأيدينا) وهو القتل على الكفر (فتربصوا) بنا ما ذكرنا من عواقبنا (إنا معكم متربصون) ما هو عاقبتكم فلابد أن يلقى كلنا ما يتربصه لا يتجاوزه (أنفقوا) يعنى في سبيل الله ووجوه البر (طوعا أو كرها) نصب على الحال: أي طائعين أو مكروهين. فإن قلت: كيف أمرهم بالإنفاق ثم قال (لن يتقبل منكم)؟ قلت: هو أمر في معنى الخبر كقوله تبارك وتعالى - قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا - ومعناه لن يتقبل منكم أنفقتم طوعا أو كرها، ونحوه قوله تعالى - استغفر لهم أو لا تستغفر لهم - وقوله: * أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة * أي لن يغفر الله لهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم، ولا نلومك أسأت إلينا أم أحسنت. فإن قلت: متى يجوز نحو هذا؟ قلت: إذا دل الكلام عليه كما جاز عكسه في قولك: رحم الله زيدا وغفر له. فإن قلت: لم فعل ذلك؟ قلت: لنكتة فيه، وهى أن كثيرا كأنه يقول لعزة: امتحني لطف محلك عندي وقوة محبتي لك وعامليني بالإساءة والإحسان، وانظري هل يتفاوت حالي معك مسيئة كنت أو محسنة، وفي معناه قول القائل:
أخوك الذي إن قمت بالسيف عامدا * لتضربه لم يستغشك في الود وكذلك المعنى: أنفقوا وانظروا هل يتقبل منكم و- استغفر لهم أو لا تستغفر لهم - وانظر هل ترى اختلافا بين حال الاستغفار وتركه. فأن قلت: ما الغرض في نفى التقبل أهو ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم تقبله منهم ورده عليهم ما يبذلون منه، أم هو كونه غير مقبول عند الله تعالى ذاهبا هباء لاثواب له؟ قلت: يحتمل الأمرين جميعا، وقوله - طوعا أو كرها - معناه طائعين من غير إلزام من الله ورسوله أو ملزمين، وسمعي الإلزام إكراها لأنهم منافقون، فكان إلزامهم الإنفاق شاقا عليهم كالإكراه، أو طائعين من غير اركاه من رؤسائكم لأن رؤساء أهل النفاق كانوا يحملون على الإنفاق لما يرون من المصلحة فيه أو مكرهين من جهتهم. وروى أنها نزلت في الجد بن
(١٩٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 190 191 192 193 194 195 196 197 198 199 200 ... » »»