الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ١ - الصفحة ٢٦٨
الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه
____________________
خلفه، ويقال للخلفاء المردة من الكفار الفسقة، وقد جاء الاستعمالان في كتاب الله - بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان - يريد اللمز والتنابر - إن المنافقين هم الفاسقون - النقض: الفسخ وفك التركيب. فإن قلت: من أين ساغ استعمال النقض في إبطال العهد؟ قلت: من حيث تسميتهم العهد بالحبل على سبيل الاستعارة لما فيه من ثبات الوصلة بين المتعاهدين، ومنه قول ابن التيهان في بيعة العقبة " يا رسول الله إن بيننا وبين القوم حبالا ونحن قاطعوها، فنخشى إن الله عز وجل أعزك وأظهرك أن ترجع إلى قومك " وهذا من أسرار البلاغة ولطائفها أن يسكنوا عن ذكر الشئ المستعار، ثم يرمزوا إليه بذكر شئ من روادفه فينبهوا بتلك الرمزة على مكانه ونحوه قولك: شجاع يفترس أقرانه وعالم يغترف منه الناس وإذا تزوجت امرأة فاستوترها لم تقل هذا إلا وقد نبهت على الشجاع والعالم بأنهما أسد وبحر، وعلى المرأة بأنها فراش. والعهد: الموثق، وعهد إليه في كذا: لذا وصاه به ووثقه عليه، واستعهد منه، إذا اشترط عليه واستوثق منه. والمراد بهؤلاء الناقضين لعهد الله أحبار اليهود المتعنتون أو منافقوهم أو الكفار جميعا. فإن قلت: فما المراد بعهد الله؟ قلت: ما ركز في عقولهم من الحجة على التوحيد كأنه أمر وصاهم به ووثقه عليهم، وهو معنى قوله تعالى - وأشهدهم على أنفسهم ابست بربكم قالوا بلى - أو أخذ الميثاق عليهم انهم إذا بعث إليهم رسول يصدقه الله بمعجزاته صدقوه واتبعوه ولم يكتموا ذكره فيما تقدمه من الكتب المنزلة عليهم كقوله - وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم - وقوله في الإنجيل لعيسى صلوات الله عليه: سأنزل عليك كتابا فيه نبأ بني إسرائيل وما أريته إياهم من الآيات، وما أنعمت عليهم، وما نقضوا من ميثاقهم الذي واثقوا به وما ضيعوا من عهده إليهم، وحسن صنعه للذين قاموا بميثاق الله تعالى وأوفوا بعهده ونصره إياهم، وكيف أنزل بأسه ونقمته بالذين غدروا ونقضوا ميثاقهم ولم يوفوا بعهده، لأن اليهود فعلوا باسم عيسى ما فعلوا باسم محمد صلى الله عليه وسلم من التحريف والجحود، وكفروا به كما كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم. وقيل هو أخذ الله العهد عليهم أن لا يسفكوا دماءهم ولا يبغي بعضهم على بعض ولا يقطعوا أرحامهم. وقيل عهد الله إلى خلقه ثلاثة عهود: العهد الأول الذي أخذه على جميع ذرية آدم الإقرار بربوبيته وهو قوله تعالى - وإذا أخذ ربك - وعهد خص به النبيين أن يبلغوا الرسالة ويقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه وهو قوله تعالى - وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم - وعهد خص به العلماء وهو قوله - وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه - والضمير في ميثاقه للعهد وهو ما وثقوا به عهد الله من قبوله وإلزامه أنفسهم، ويجوز أن يكون بمعنى توثقته كما أن الميعاد والميلاد بمعنى الوعد والولادة، ويجوز أن يرجع الضمير إلى الله تعالى: أي من بعد توثقته عليهم أو من بعد ما وثق به
(٢٦٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 263 264 265 266 267 268 269 270 271 272 273 ... » »»