الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ١ - الصفحة ٢٦٤
ما بعوضة
____________________
فالذي سوغ بناء الجار وتجعيد الشهادة هو مراعاة المشاكلة ولولا بناء الدار لم يصح بناء الجار وسبوطة الشهادة لامتنع تجعيدها ولله در أمر التنزيل وإحاطته بفنون البلاغة وشعبها لا تكاد تستغرب منها فنا إلا عثرت عليه فيه على أقوم مناهجه وأسد مدارجه وقد أستعير الحياء فيما لا يصح فيه:
إذا ما استحين الماء يعرض نفسه * كرعن بسبت في إناء من الورد وقرأ ابن كثير في رواية شبل يستحى بياء واحدة وفيه لغتان التعدي بالجار والتعدي بنفسه يقولون استحييت منه واستحييته وهما محتملتان ههنا وضرب المثل اعتماده وصنعه من ضرب اللبن وضرب الخاتم وفى الحديث " اضطرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاتما من ذهب " و (ما) هذه إبهامية وهى التي إذا اقترنت باسم نكرة أبهمته إبهاما وزادته شياعا وعموما كقولك أعطني كتابا ما تريد أي كتاب كان أوصلة للتأكيد كالتي في قوله فبما نقضهم ميثاقهم - كأنه قيل لا يستحيى أن يضرب مثلا حقا أو البتة هذا إذا نصبت (بعوضة) فإن رفعتها فهي موصولة صلتها الجملة لأن التقدير هو بعوضة فحذف صدر الجملة كما حذف في تماما على الذي أحسن ووجه آخر حسن جميل وهو أن تكون التي فيها معنى الاستفهام لما استنكفوا من تمثيل الله لأصنامهم بالمحقرات قال إن الله لا يستحيى أن يضرب للأنداد ما شاء من الأشياء المحقرة مثلا بله البعوضة فما فوقها كما يقال فلان لا يبالي بما وهب ما دينار وديناران أو المعنى إن لله أن يتمثل للأنداد وحقارة شأنها بما لا شئ أصغر منه وأقل، كما لو تمثل بالجزء الذي لا يتجزأ وبما لا يدركه لتناهيه في صغره إلا هو وحده بلطفه أو بالمعدوم كما تقول العرب فلان أقل من لا شئ في العدد ولقد ألم به قوله تعالى - إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شئ وهذه القراءة تعزى إلى رؤبة بن العجاج وهو أمضغ العرب للشيح والقيصوم المشهود له بالفصاحة وكانوا يشبهون به الحسن وما أظنه ذهب في هذه القراءة إلا إلى هذا الوجه وهو المطابق لفصاحته وانتصب بعوضة بأنها عطف بيان لمثلا أو مفعول ليضرب ومثلا حال عن النكرة مقدمة عليه أو انتصبا مفعولين فجرى ضرب مجرى جعل واشتقاق البعوض من البعض وهو القطع كالبضع والعضب يقال بعضه البعوض وأنشد:
لتعم البيت بيت أبى دثار * إذا ما خاف بعض القوم بعضا
(٢٦٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 256 259 260 261 263 264 265 266 267 268 269 ... » »»