الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ١ - الصفحة ٦١٨
وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلونكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون. وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم
____________________
بأحكام التوراة. فإن قلت: أي فرق بين التعريفين في قوله (وأنزلنا إليك الكتاب) وقوله (لما بين يديه من الكتاب). قلت: الأول تعريف العهد لأنه عنى به القرآن.. والثاني تعريف الجنس لأنه عنى به جنس الكتب المنزلة، ويجوز أن يقال هو للعهد لأنه لم يرد به ما يقع عليه اسم الكتاب على الاطلاق، وإنما أريد نوع معلوم منه وهو ما أنزل من السماء سوى القرآن (ومهيمنا) ورقيبا على سائر الكتب لأنه يشهد لها بالصحة والثبات. وقرئ ومهيمنا عليه بفتح الميم: أي هو من عله بأن حفظ من التغيير والتبديل كما قال - لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه - والذي هيمن عليه الله عز وجل، أو الحفاظ في كل بلد لو حرف حرف منه أو حركة أو سكون لتنبه عليه كل أحد ولاشمأزوا رادين ومنكرين. ضمن (ولا تتبع) معنى ولا تنحرف فلذلك عدى بعن كأنه قيل:
ولا تنحرف عما جاءك من الحق متبعا أهواءهم (لكل جعلنا منكم) أيها الناس (شرعة) شريعة. وقرأ يحيى بن وثاب بفتح الشين (ومنهاجا) وطريقا واضحا في الدين تجرون عليه، وقيل هذا دليل على أنا غير متعبدين بشرائع من قبلنا (لجعلكم أمة واحدة) جماعة متفقة على شريعة واحدة أو ذوي أمة واحدة: أي دين واحد لا اختلاف فيه (ولكن) أراد (ليبلوكم فيما آتاكم) من الشرائع المختلفة هل تعملون بها مذعنين معتقدين أنها مصالح قد اختلفت على حسب الأحوال والأوقات معترفين بأن الله لم يقصد باختلافها إلا ما اقتضته الحكمة أم تتبعون الشبه وتفرطون في العمل (فاستبقوا الخيرات) فابتدروها وتسابقوا نحوها (إلى الله مرجعكم) استئناف في معنى التعليل لاستباق الخيرات (فينبئكم) فيخبركم بما لا تشكون معه من الجزاء الفاصل بين محقكم ومبطلكم وعاملكم ومفرطكم في العمل.
فإن قلت: (وأن احكم بينهم) معطوف على ماذا؟ قلت: على الكتاب في قوله (وأنزلنا إليك الكتاب) كأنه قيل:
وأنزلنا إليك أن احكم على أن أن وصلت بالامر لأنه فعل كسائر الافعال، ويجوز أن يكون معطوفا على بالحق:
أي أنزلناه بالحق وبأن احكم (أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك) أن يضلوك عنه ويستزلوك. وذلك أن كعب بن أسيد وعبد الله بن صوريا وشاس بن قيس من أحبار اليهود قالوا اذهبوا بنا إلى محمد نفتنه عن دينه، فقالوا له: يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود وأنا إن أتبعناك أتبعتنا اليهود كلهم ولم يخالفونا، وإن بيننا وبين قومنا خصومة فنحاكم إليك فتقضي لنا عليهم ونحن نؤمن بك ونصدقك، فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت (فإن تولوا) عن الحكم بما أنزل الله إليك وأرادوا غيره (فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم)
(٦١٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 613 614 615 616 617 618 619 620 621 623 624 ... » »»