الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ١ - الصفحة ٦٠٦
فلا تأس على القوم الفاسقين. واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين.
____________________
بحيث ارتحلوا عنه، وكان الغمام يظللهم من حر الشمس ويطلع لهم عمود من نور بالليل يضئ لهم وينزل عليهم المن والسلوى ولا تطول شعورهم، وإذا ولد لهم مولود كان عليه ثوب كالظفر يطول بطوله. فإن قلت: فلم كان ينعم عليهم بتظليل الغمام وغيره وهم معاقبون؟ قلت: كما ينزل بعض النوازل على العصاة عركا لهم وعليهم مع ذلك النعمة متظاهرة، ومثل ذلك مثل الوالد المشفق يضرب ولده ويؤذيه ليتأدب ويتثقف ولا يقطع عنه معروفه وإحسانه. فإن قلت: هل كان معهم في التيه موسى وهارون عليهما السلام؟ قلت: اختلف في ذلك فقيل لم يكونا معهم لأنه كان عقابا، وقد طلب موسى إلى ربه أن يفرق بينهما وبينهم. وقيل كانا معهم إلا أنه كان ذلك روحا لهما وسلامة لا عقوبة كالنار لإبراهيم وملائكة العذاب. وروي أن هارون مات في التيه ومات موسى بعده فيه بسنة، ودخل يوشع أريحاء بعد موته بثلاثة أشهر، ومات النقباء في التيه بغتة إلا كالب ويوشع (فلا تأس) فلا تحزن عليهم لأنه ندم على الدعاء عليهم فقيل إنهم أحقاء لفسقهم بالعذاب فلا تحزن ولا تندم. هما ابنا آدم لصلبه قابيل وهابيل، أوحى الله إلى آدم أن يزوج كل واحد منهما توأمة الآخر، وكانت توأمة قابيل أجمل واسمها إقليما، فحسد عليها أخاه وسخط، فقال لهما آدم: قربا قربانا فمن أيكما تقبل زوجها، فقبل قربان هابيل بأن نزلت نار فأكلته، فازداد قابيل حسدا وسخطا وتوعده بالقتل. وقيل هما رجلان من بني إسرائيل (بالحق) تلاوة متلبسة بالحق والصحة، أو اتله نبأ متلبسا بالصدق موافقا لما في كتب الأولين أو بالغرض الصحيح وهو تقبيح الحسد، لان المشركين وأهل الكتاب كلهم كانوا يحسدون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبغون عليه، أو أتل عليهم وأنت محق صادق، و (إذ قربا) نصب بالنبأ: أي قصتهم وحديثهم في ذلك الوقت، ويجوز أن يكون بدلا من النبأ: أي أتل عليهم النبأ نبأ ذلك الوقت على تقدير حذف المضاف. والقربان: اسم ما يتقرب به إلى الله من نسيكة أو صدقة، كما أن الحلوان اسم ما يحلى: أي يعطى، يقال قرب صدقة وتقرب بها لان تقرب مطاوع قرب. قال الأصمعي: تقربوا قرف القمع، فيعدى بالباء حتى يكون بمعنى قرب. فإن قلت: كيف كان قوله (إنما يتقبل الله من المتقين) جوابا لقوله لأقتلنك؟ قلت: لما كان الحسد لأخيه على تقبل قربانه هو الذي حمله على توعده بالقتل قال له إنما أتيت من قبل نفسك لانسلاخها من لباس التقوى لا من قبلي فلم تقتلني، ومالك لا تعاتب نفسك ولا تحملها على تقوى الله التي هي السبب في القبول؟ فأجابه بكلام حكيم مختصر جامع لمعان. وفيه دليل على أن الله تعالى لا يقبل طاعة إلا من مؤمن متق، فما أنعاه على أكثر العاملين أعمالهم. وعن عامر بن عبد الله أنه بكى حين حضرته الوفاة فقيل له: ما يبكيك فقد كنت وكنت؟ قال: إني أسمع الله يقول - إنما يتقبل الله من المتقين - (ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك) قيل كان أقوى من القاتل وأبطش منه، ولكنه
(٦٠٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 601 602 603 604 605 606 607 608 609 610 611 ... » »»