الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ١ - الصفحة ٥٩٤
فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لاثم فإن الله غفور رحيم. يسئلونك ماذا أحل لهم؟ قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم
____________________
وحده - ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه - إن هذه أمتكم أمة واحدة - فإن قلت: بم اتصل قوله (فمن اضطر)؟ قلت: بذكر المحرمات وقوله ذلكم فسق اعتراض أكد به معنى التحريم وكذلك ما بعده، لان تحريم هذه الخبائث من جملة الدين الكامل والنعمة التامة والاسلام المنعوت بالرضا دون غيره من الملل، ومعناه: فمن اضطر إلى الميتة أو إلى غيرها (في مخمصة) في مجاعة (غير متجانف لاثم) غير منحرف إليه كقوله غير باغ ولا عاد (فإن الله غفور) لا يؤاخذه بذلك. في السؤال معنى القول فلذلك وقع بعده (ماذا أحل لهم) كأنه قيل يقولون لك: ماذا أحل لهم، وإنما لم يقل ماذا أحل لنا حكاية لما قالوه، لان يسألونك بلفظ الغيبة كما تقول:
أقسم زيد ليفعلن، ولو قيل لأفعلن وأحل لنا لكان صوابا، وماذا مبتدأ وأحل لهم خبره، كقولك: أي شئ أحل لهم؟ ومعناه: ماذا أحل لهم من المطاعم؟ كأنهم حين تلا عليهم ما حرم عليهم من خبيثات المآكل سألوا عما أحل لهم منها فقيل (أحل لكم الطيبات) أي ما ليس بخبيث منها وهو كل ما لم يأت تحريمه في كتاب أو سنة أو قياس مجتهد (وما علمتم من الجوارح) عطف على الطيبات: أي أحل لكم الطيبات وصيد ما علمتم فحذف المضاف أو تجعل ما شرطية وجوابها فكلوا. والجوارح: الكواسب من سباع البهائم والطير كالكلب والفهد والنمر والعقاب والصقر والبازي والشاهين. والمكلب: مؤدب الجوارح ومضريها بالصيد لصاحبها ورائضها لذلك بما علم من الحيل وطرق التأديب والتثقيف، واشتقاقه من الكلب لان التأديب أكثر ما يكون في الكلاب، فاشتق من لفظه لكثرته في جنسه، أو لان السبع يسمى كلبا، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام (اللهم سلط عليه كلبا من كلابك) فأكله الأسد، أو من الكلب الذي هو بمعنى الضراوة، يقال هو كلب بكذا: إذا كان ضاريا به، وانتصاب (مكلبين) على الحال من علمتم. فإن قلت: ما فائدة هذه الحال وقد استغنى عنها بعلمتم؟ قلت: فائدتها أن يكون من يعلم الجوارح نحريرا في علمه مدربا فيه موصوفا بالتكليب و (تعلمونهن) حال ثانية أو استئناف، وفيه فائدة جليلة وهي أن على كل آخذ علما أن لا يأخذه إلا من أقتل أهله علما وأنحرهم دراية وأغوصهم على لطائفه وحقائقه وإن احتاج إلى أن يضرب إليه أكباد الإبل، فكم من آخذ عن غير متقن قد ضيع أيامه وعض عند لقاء النحارير أنامله (مما علمكم الله) من علم التكليب لأنه إلهام من الله ومكتسب بالعقل، أو مما عرفكم أن تعلموه من اتباع الصيد بإرسال صاحبه وانزجاره بزجره وانصرافه بدعائه وإمساك الصيد عليه وأن لا يأكل منه. وقرئ
(٥٩٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 589 590 591 592 593 594 595 596 597 598 599 ... » »»