الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ١ - الصفحة ٤٩٨
وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه
____________________
ما يصعب عليه المحافظة على حدود الورع وكسب الحلال والرزق الطيب، وكلام مثله من أعلام العلم وأئمة الشرع ورؤوس المجتهدين حقيق بالحمل على الصحة والسداد، وأن لا يظن به تحريف تعيلوا إلى تعولوا. فقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تظنن بكلمة خرجت من في أخيك سوءا وأنت تجد لها في الخير محملا، وكفى بكتابنا المترجم بكتاب (شافي العي من كلام الشافعي) شاهدا بأنه كان أعلى كعبا وأطول باعا في علم كلام العرب من أن يخفى عليه مثل هذا، ولكن للعلماء طرقا وأساليب، فسلك في تفسير هذه الكلمة طريقة الكنايات. فإن قلت: كيف يقال عيال من تسرى وفي السراري نحو ما في المهائر؟ قلت: ليس كذلك لان الغرض بالتزوج التوالد والتناسل بخلاف التسري، ولذلك جاز العزل عن السراري بغير إذنهن، فكان التسري مظنة لقلة الولد بالإضافة إلى التزوج كتزوج الواحدة بالإضافة إلى تزوج الأربع. وقرأ طاوس أن لا تعيلوا من أعال الرجل: إذا كثر عياله، وهذه القراءة تعضد تفسير الشافعي رحمه الله من حيث المعنى الذي قصده (صدقاتهن) مهورهن. وفي حديث شريح قضى ابن عباس لها بالصدقة. وقرئ صدقاتهن بفتح الصاد وسكون الدال على تخفيف صدقاتهن، وصدقاتهن بضم الصاد وسكون الدال جمع صدقة بوزن غرفة، وقرئ صدقتهن بضم الصاد والدال على التوحيد وهو تثقيل صدقة كقولك في ظلمة (نحلة) من نحله كذا: إذا أعطاه إياه ووهبه له عن طيبة من نفسه نحلة ونحلا، ومنه حديث أبي بكر رضي الله عنه: إني كنت نحلتك جداد عشرين وسقا بالعالية، وانتصابها على المصدر لان النحلة والايتاء بمعنى الاعطاء، فكأنه قيل: وانحلوا النساء صدقاتهن نحلة: أي أعطوهن مهورهن عن طيبة أنفسكم أو على الحال من المخاطبين: أي آتوهن صدقاتهن ناحلين طيبي النفوس بالاعطاء، أو من الصدقات: أي منحولة معطاة عن طيبة الأنفس، وقيل نحلة من الله عطية من عنده وتفضلا منه عليهن، وقيل النحلة الملة، ونحلة الاسلام خير النحل، وفلان ينتحل كذا: أي يدين به، والمعنى: آتوهن مهورهن ديانة على أنها مفعول لها، ويجوز أن يكون حلا من الصدقات: أي دينا من الله شرعه وفرضه. والخطاب للأزواج، وقيل للأولياء لانهم كانوا يأخذون مهور بناتهم وكانوا يقولون هنيئا لك النافجة لمن تولد له بنت، يعنون تأخذ مهرها فتنفج به مالك:
أي تعظمه. الضمير في منه جار مجرى اسم الإشارة كأنه قيل عن شئ من ذلك كما قال الله تعالى - قل أؤنبئكم بخير من ذلك - بعد ذكر الشهوات، ومن الحجج المسموعة من أفواه العرب ما روي عن رؤبة أنه قيل له في قوله:
* كأنه في الجلد توليع البهق *. فقال: أردت كأن ذاك أو يرجع إلى ما هو في معنى الصدقات وهو الصداق، لأنك لو قلت: وآتوا النساء صدقاتهن لم تخل بالمعنى، فهو نحو قوله - فأصدق وأكن من الصالحين - كأنه قيل أصدق.
(ونفسا) تمييز وتوحيدها لان الغرض بيان الجنس والواحد يدل عليه، والمعنى: فإن وهبن لكم شيئا من الصداق وتجافت عنه نفوسهن طيبات غير مخبثات بما يضطرهن إلى الهبة من شكاسة أخلاقكم وسوء معاشرتكم (فكلوه)
(٤٩٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 493 494 495 496 497 498 499 500 502 503 504 ... » »»