وإنما أقدم كأن الأمر لا يدور إلا بينه وبين أبي بكر كأمر ثابت لا شك فيه. وهذه مغامرة خطيرة لها ما بعدها، ولم تكن منه إلا لأنه أدرك نضج القوم وتهيئهم لبيعة أحد المهاجرين.
ولذلك لم نجد معارضة من القوم، بل الأوس ذهبت جميعها مسرعة للبيعة من غير تردد ولا تلكؤ يقدمها أسيد بن حضير بعد أن قالت ما قالت كما تقدم في البحث (3). ثم تبعهم جميع الأنصار ما عدا سعدا ومن كان شديد التعصب له كابنه قيس والحباب. ولا شك أن للعدوى أثرها الفعال في الجماعات فتسري سريان النار في الهشيم، أو تيار الكهرباء في سلكه، فقد وجدنا كيف كان هلعهم في تزاحمهم على البيعة وتسابقهم إليها، كأنما تفوت دونها الفرصة، فأقبلوا من كل جانب يبايعون أبا بكر، حتى ازدحموا على سعد بن عبادة السيد المطاع في الخزرج بل الأنصار كلهم، هذا الزعيم الذي كان قبل ساعة مرشحا للبيعة خليفة للنبي وأميرا على جميع المسلمين، وكادوا يطأونه فيقتلونه وهو مزمل وجع، فحمل إلى داره صفر اليدين.
وهذا ألطف شئ في تناقض أفعال الجمهور وعدم ثباته وتطرفه في أعماله وآرائه وشدة نزقه، فإنه لا يعرف الحلم والصبر ولا قمع النفس عن الاسترسال في نزعاتها، ولا المحافظة على الآداب العامة المصطلح عليها، وهو مع ذلك كثير النسيان لأحواله السابقة.