وقال له: ويحك يا أخس العرب وأذلها، إني أراك تحب فراق العشيرة، مثلك من يتكلم بهذا الكلام وأنت أخس اللئام (1)؟ ثم عاجله بضربة، وحالوا بينه وبينه فلحقه بعض السيف فشجه شجة موضحة (2)، وصار الدم يسيل على وجهه، فنادى أبو جهل: يا آل المحافل، ورؤساء القبائل، أترضون أن تحملوا العار، وترموا بالشنار، اقتلوا سطيحا " وآمنة وفاطمة بنت أسد وبني هاشم جميعا "، واخمدوا نارهم، واطفئوا شرارهم، فحمل قريش بأجمعهم على سطيح، ولم يكن لبني هاشم طاقة، فالتجأت النساء بالكعبة، وثار الغبار، وطار الشرار، وكثرت الزعقات (2)، وارتجت الأرض بطولها والعرض.
ويروى عن آمنة أم النبي صلى الله عليه وآله قالت: حين رأيت السيوف قد دارت حولي ذهلت في أمري، والقوم يريدون قتلي، فبينا أنا كذلك إذ اضطرب الجنين في بطني، وسمعت شيئا " كالأنين، وإذا بالقوم قد صيح بهم صيحة من السماء، وصرخ بهم صارخ من الهواء، فذهلت العقول، وسقطت الرجال والنساء على الوجوه صرعى، كأنهم موتى، قالت آمنة:
فرفعت بصري نحو السماء فرأيت أبواب السماء قد فتحت، وإذا أنا بفارس في يده حربة من نار، وهو ينادي ويقول: لا سبيل لكم إلى رسول الملك الجليل، وأنا أخوه جبرئيل، قالت: فعند ذلك سكن قلبي، ورجع إلي جناني، وتحققت دلائل النبوة لولدي محمد صلى الله عليه وآله، ثم انصرفنا إلى منازلنا، وأقبل أبو طالب آخذا بيد أخيه عبد الله، وجلسا بفناء الكعبة يهنئان أنفسهما بما رزقا من الكرامة والنصر، والقوم صرعى، فلبثوا كذلك ثلاث ساعات من النهار، ثم قاموا كأنهم سكارى، ثم تقدم منبه بن الحجاج، ووقف إلى جانب أبي طالب، وقال: إنك لم تزل عاليا " في المراتب ولمن ناواك غالبا " لكن نريد منك أن تصرف عنا سطيحا "، فإن كان ما تكلم به صحيحا " فنحن أولى بأن نعاضده، وأنشأ يقول:
أبا طالب إنا إليك عصابة * لنرجوك فارحم من أتى لك راجيا " ونحن فجيران لكم ومعاضد * على كل من أضحى وأمسى معاديا