فإن أجاب بما يستحق به النعيم قام بذلك ملك النعيم وعرج عنه ملك العذاب، وإن ظهرت فيه علامة استحقاقه العذاب وكل به ملك العذاب وعرج عنه ملك النعيم، وقد قيل: إن الملائكة الموكلين بالنعيم والعقاب غير الملكين الموكلين بالمسألة، وإنما يعرف ملائكة النعيم وملائكة العقاب ما يستحقه العبد من جهة ملكي المسألة، فإذا سائلا العبد وظهر منه ما يستحق به الجزاء تولى منه ذلك ملائكة الجزاء، وعرج ملكا المسألة إلى مكانهما من السماء، وهذا كله جائز ولسنا نقطع بأحد دون صاحبه، إذ الاخبار فيه متكافئة، والعادة لنا في معنى ما ذكرناه التوقف والتجويز.
فصل: وإنما وكل الله تعالى ملائكة المسألة وملائكة العذاب والنعيم بالخلق تعبدا لهم بذلك، كما وكل الكتبة من الملائكة عليهم السلام بحفظ أعمال الخلق وكتبها ونسخها ورفعها تعبدا لهم بذلك، وكما تعبد طائفة من الملائكة بحفظ بني آدم وطائفة منهم بإهلاك الأمم، وطائفة بحمل العرش، وطائفة بالطواف حول البيت المعمور، وطائفة بالتسبيح، وطائفة بالاستغفار للمؤمنين، وطائفة بتنعيم أهل الجنة، وطائفة بتعذيب أهل النار والتعبد لهم بذلك ليثيبهم عليها، ولم يتعبد الله الملائكة بذلك عبثا كما لم يتعبد البشر والجن بما تعبدهم به لعبا بل تعبد الكل للجزاء، وما تقتضيه الحكمة من تعريفهم نفسه تعالى والتزامهم شكر النعمة عليهم، وقد كان الله تعالى قادرا على أن يفعل العذاب بمستحقه من غير واسطة وينعم المطيع من غير واسطة، لكنه علق ذلك على الوسائط لما ذكرناه وبينا وجه الحكمة فيه ووصفناه، وطريق مسألة الملكين الأموات بعد خروجهم من الدنيا بالوفاة هو السمع، وطريق العلم برد الحياة إليهم عند المسألة هو العقل، إذ لا تصح مسألة الأموات واستخبار الجمادات، وإنما يحسن الكلام للحي العاقل لما يكلم به، وتقريره وإلزامه بما يقدر عليه، مع أنه قد جاء في الخبر أن كل مسأل ترد إليه الحياة عند مساءلتهم ليفهم ما يقال له، فالخبر بذلك أكد ما في العقل، ولو لم يرد بذلك خبر لكفى حجة العقل فيه على ما بيناه. انتهى كلامه رحمه الله.
وأقول: لما كانت هذه المسألة من أعظم الأصول الاسلامية وقد أكثرت المتفلسفة والملاحدة الشبه فيها ورام بعض من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه تأويلها وتحريفها