ثم إنه استدل عليه السلام على إبطال مذهبهم بوجهين: الأول أن قولكم: إنه تعالى كان لم يزل متأذيا من تلك الطينة ولم يستطع التفصي منها يستلزم عجزه تعالى، والعجز نقص يحكم العقل ببراءة صانع مثل هذا النظام عنه، وأيضا يوجب الاحتياج إلى من يرفع ويدفع ذلك عنه، وهو ينافي وجوب الوجود الذي قام البرهان على اتصاف الصانع تعالى به.
والثاني: أنه لا يخلو إما أن تكون تلك الطينة الأزلية حية عالمة قادرة، فيكون كل منهما إلها واجبا بالذات، لما قد ثبت بالعقل والنقل أن الممكن لا يكون قديما فإذا حصل العالم من امتزاجهما فلا يجوز على شئ من أجزاء العالم الموت والفناء إذ انتفاء المركب إنما يكون بانتفاء أحد أجزائه والجزءان هنا قديمان. ويحتمل أن يكون هذا إلزاما عليهم حيث أثبتوا الظلمة وجعلوها ميتة جاهلة عاجزة جمادا لينسبوا إليها الموت والفناء، زعما منهم أن مثل هذه الأمور لا يصدر عن النور الحي العالم القادر، وإما أن تكون ميتة أي عادمة للقدرة والعلم والإرادة، وهذا محال إذ القدم يستلزم وجوب الوجود، وهو يستلزم الاتصاف بالعلم والقدرة وسائر الكمالات، وإليه أشار عليه السلام بقوله فلا بقاء للميت مع الأزلي القديم. ثم أبطل عليه السلام ذلك بوجه آخر، و هو أنهم ينسبون خلق المؤذيات كالحيات والعقارب والسباع إلى الظلمة، ولو كانت ميتة لا يجوز نسبة خلقها إليها إذ العقل يحكم بديهة أنه يجب أن يكون الصانع أشرف من المصنوع من جميع الجهات وكيف يفيض الحياة والعلم والقدرة ممن لم يكن له حظ منها.
وأما المانوية فيظهر من كلامه عليه السلام في تقرير مذهبهم غير ما مر من نقل الناقلين لمذهبهم ولا عبرة بنقلهم، فإنهم كثيرا ما ينسبون أشياء إلى جماعة من الشيعة وغيرهم مما قد نعلم خلافها، مع أنه يحتمل أن يكون كلامهم مرموزا، وعلم عليه السلام أن مرادهم بالنور الروح، وبالظلمة الجسد، والنور هو الرب تعالى. ويؤيده أنه كان الملعون نصرانيا ومذهب النصارى في المسيح عليه السلام قريب من ذلك، ويحتمل أن يكون ما ذكره عليه السلام مذهبا لجماعة من قدمائهم، ثم غيروه إلى ما نقل عنهم، وكون النور أسيرا