فمن أين هذا التقدير والصواب في خلق الذرة إلا من التدبير القائم في صغير الخلق و كبيره؟.
انظر إلى النمل واحتشادها في جمع القوت وإعداده، فإنك ترى الجماعة منها إذا نقلت الحب إلى زبيتها بمنزلة جماعة من الناس ينقلون الطعام أو غيره، بل للنمل في ذلك من الجد والتشمير ما ليس للناس مثله، أما تريهم يتعاونون على النقل كما يتعاون الناس على العمل؟ ثم يعمدون إلى الحب فيقطعونه قطعا لكيلا ينبت فيفسد عليهم (1) فإن أصابه ندى أخرجوه فنشروه حتى يجف، ثم لا يتخذ النمل الزبية إلا في نشر من الأرض كي لا يفيض السيل فيغرقها (2) فكل هذا منه بلا عقل ولا روية بل خلقة خلق عليها لمصلحة لطفا من الله عز وجل.
انظر إلى هذا الذي يقال له: الليث، وتسميه العامة أسد الذباب، وما أعطي من الحيلة والرفق في معاشه، فإنك تراه حين يحس بالذباب قد وقع قريبا منه تركه مليا حتى كأنه موات لا حراك به، فإذا رأى الذباب قد اطمأن وغفل عنه دب دبيبا دقيقا (3) حتى يكون منه بحيث يناله وثبه ثم يثب عليه فيأخذه فإذا أخذه اشتمل عليه بجسمه كله مخافة أن ينجو منه فلا يزال قابضا عليه حتى يحس بأنه قد ضعف واسترخى ثم يقبل عليه فيفترسه ويحيى بذلك منه، فأما العنكبوت فإنه ينسج ذلك النسج فيتخذه شركا ومصيدة للذباب ثم يكمن في جوفه فإذا نشب فيه الذباب (4) أجال عليه يلدغه ساعة بعد ساعة فيعيش بذلك منه فكذلك يحكى صيد الكلاب والفهود، وهكذا يحكى صيد الاشراك والحبائل.