إرادته ليست إرادة حتمية جبرية بل هي إرادة تخييرية تكليفية.
ففيه أيضا رد على الجبرية إلا أنهم لما قالوا إن إرادته حتمية، قالوا: مراد الله تعالى في هذه الصور هو أضداد الامور المذكورة وهي الأكل وترك السجود والكفر والمعاصي، ولا يخفى قبح هذا القول وشناعته، وإنما قلنا الظاهر ذلك لاحتمال أن يكون ضميره راجعا إلى الإرادة المفهومة من يريد، والمعنى - والله أعلم - أن الله أعز من أن يريد أمرا فلا يكون إرادة ذلك الأمر ويكون إرادة خلافه.
وفيه حينئذ رد على من قال من المفوضة إنه تعالى فوض قبول أمره إلى العباد، بمعنى أنهم إن قبلوا أمره فهو مراد له ويثيبهم وإن لم يقبلوه بأن فعلوا خلافه فما فعلوه مراد له ويعاقبهم، وسنذكر عن مولانا أبي الحسن علي بن محمد العسكري (عليهما السلام) ما يدل على بطلان التفويض بهذا المعنى، ومن العجائب أنهم يقولون: إرادة الشيطان لا مرد لها وإرادة الرحمن تتبدل باختيارهم كما يرشد إليه ما يأتي في باب ما أمر النبي (صلى الله عليه وآله) بالنصيحة لأئمة المسلمين «قدري يقول: لا يكون ما شاء الله ويكون ما شاء إبليس - الحديث» (قال: فسئلا هل بين الجبر والقدر) يعني التفويض وقد عرفت أن القدر يطلق على التفويض أيضا (منزلة ثالثة؟ قالا: نعم أوسع مما بين السماء والأرض) الغرض من تشبيه هذه المنزلة المعقولة بالمنزل المحسوس وتفضيلها عليه هو الإيضاح والمبالغة في سعتها، وسر ذلك أنه تعالى لما علم من الخلق صنفين من الفعل وهما الخير والشر ركب فيهم آلتهما المؤثرة التي هي القدرة ولم يخلق فيهم آلة الخير فقط وإلا لكانوا مجبورين في الخير والشر وإذا كان فيهم آلتهما كانوا قادرين عليهما، وإذا كانوا قادرين اقتضت الحكمة حصرهم وتعبدهم بإرسال الرسل وتقرير الشرائع وتوجه الأوامر والنواهي ثم تداركهم بعد ذلك عند كل فعل وترك بالألطاف والعنايات والتدبيرات والاختيارات التي يشاهد بضعها في نفسه بعض العارفين وهذه منزلة عريضة (1) وسيعة طويلة لا يعلم أقطارها ونهاياتها وحدودها وغاياتها إلا الراسخون في العلم،