شرح أصول الكافي - مولي محمد صالح المازندراني - ج ٤ - الصفحة ٢٨٦
فإن استقيما أو استقيم الأول وحده كان هو عند الله محبوبا وكان عمله مبغوضا، وإن استقيم الثاني أو لم يستقم شيء منهما كان هو عند الله مبغوضا وكان عمله محبوبا، وكلما كان العمل وحده مبغوضا أمكن أن يتداركه: التوبة أو المصيبة الدنيوية أو البرزخية أو الشفاعة أو العفو، ومما ذكرنا ظهر أن الكافر الذي يؤمن محبوب له تعالى في علم الغيب والمؤمن الذي يكفر مبغوض أبدا.
لا يقال: هذا ينافي قوله تعالى (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) فإن هؤلاء كانوا محبوبين لله تعالى; لأن الرضا عنهم يوجب المحبة ثم صار بعضهم مبغوضا بالنفاق في حال حياته (صلى الله عليه وآله) وبعضهم بالخلاف بعده.
لأنا نقول: الرضا متعلق بالمؤمنين وكون هؤلاء من المؤمنين عند المبايعة ممنوع، وعلى تقدير التسليم كان الرضا مشروطا بالوفاء وعدم النكث كما يدل عليه قوله تعالى (فمن نكث فإنما ينكث على نفسه) وهؤلاء لما نكثوا علم أنهم فقدوا شرط المحبة، وفي هذا الحديث رد على الأشاعرة القائلين بأنه تعالى أراد جميع أفعال العباد ورضي بها وأحبها بناء على ما زعموا من أنه الموجد لها.
* الأصل:
2 - علي بن محمد رفعه، عن شعيب العقرقوفي، عن أبي بصير قال: كنت بين يدي أبي عبد الله (عليه السلام) جالسا وقد سأله سائل فقال: جعلت فداك يا ابن رسول الله! من أين لحق الشقاء أهل المعصية حتى حكم الله لهم في علمه بالعذاب على عملهم؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): أيها السائل حكم الله عز وجل لا يقوم له أحد من خلقه بحقه. فلما حكم بذلك وهب لأهل محبته القوة على معرفته ووضع عنهم ثقل العمل بحقيقة ما هم أهله. ووهب لأهل المعصية القوة على معصيتهم لسبق علمه فيهم، ومنعهم إطاقة القبول منه فوافقوا ما سبق لهم في علمه ولم يقدروا أن يأتوا حالا تنجيهم من عذابه. لأن علمه أولى بحقيقة التصديق وهو معنى شاء ما شاء وهو سره.
* الشرح:
(علي بن محمد رفعه، عن شعيب العقرقوفي عن أبي بصير قال: كنت بين يدي أبي عبد الله (عليه السلام) جالسا) قوله جالسا إما خبر والظرف متعلق به أوحال والظرف خبر (وقد سأله سائل فقال: جعلت فداك يا ابن رسول الله من أين لحق الشقاء أهل المعصية) (1) أي من أي محل، على أن يكون «من»

١ - قوله: «من أين لحق الشقاء أهل المعصية» لا يخلو ما ذكره في تأويل الخبر عن تكلف ولكن من ارتكابه لئلا يخالف ما هو المعلوم من مذهب أهل البيت (عليهم السلام); لأن ظاهره الجبر وأنه تعالى قدر السعادة لبعض الناس والشقاء لبعضهم فمن قدر له السعادة سهل له السبيل إليها ومن قدر له الشقاء هيأ له وسائل العصيان ومنعه من قبول الطاعات ولم يقدروا أن يتخلصوا منه; لأن علم الله فيهم لا يتخلف. فإن قيل كيف قهرهم على الشقاء، قيل في الجواب إنه تعالى علم أنه يشقى لا محالة، وإن سهل له السبيل إلى طاعته لا يطيع ولذلك لم يقدر له وسائل الطاعة وأسبابها وهو لا يوافق ساير ما روي عنهم (عليهم السلام) من أنه تعالى سهل أسباب الخير لجميع الناس وسوى التوفيق بين الوضيع والشريف مكن من أداء المأمور وسهل سبيل اجتناب المحظور وقال تعالى (هديناه النجدين) وتأويل الشارح كما ترى لا يخلو عن التكلف. وحمله صدر المتألهين على السؤال عن علة دوام العقاب وخلوده مع أن العصيان متناه منقض في زمان قليل متناه، وحمل جواب الإمام (عليه السلام) على أن العقاب ليس على نفس العمل فإنه عرض ينقضي وحكم الله تعالى بالعقاب الدائم لا يقوم له ولا يتسبب عنه وليس من حق العمل العقاب بل إنما يكون العمل معدا; لأن يفيض من الله تعالى على النفوس ملكات راسخة واعتقادات ومعارف يبقى ببقاء الله تعالى فيدوم الثواب والعقاب ببقاء تلك المعارف والملكات كما أن قصور الغارس في تربية الشجر في مدة قليلة يوجب فساد ثمارها، وهذا تأويل حسن في نفسه لكن في حمل ألفاظ الخبر عليه تكلف، ومع ذلك فهذا خبر مرسل مضطرب المتن لا حجة فيه وإن فرض حجية أخبار الآحاد في هذه المسائل فقد رواه الشيخ الصدوق - رحمه الله - في التوحيد مع اختلاف لا يوجب الجبر. وقال العلامة المجلسي (رحمه الله) بعد نقله من التوحيد هذا الخبر: مأخوذ من الكافي وفيه تغييرات عجيبة تورث سوء الظن بالصدوق (رحمه الله) وانه إنما فعل ذلك ليوافق مذهب العدل انتهى.
وهذا الاحتمال الذي ذكره لا يتطرق عندي إلى نقل فساق مؤرخي المخالفين فكيف إلى رواية أعاظم علماء أهل الحق وفي الصفحة 583 من المجلد الرابع أن الصدوق من عظماء القدماء التابعين لآثار الأئمة النجباء الذين لا يتبعون الآراء والأهواء انتهى. وهو كلام تام في مدح الصدوق (رحمه الله) ولكنه رحمه الله لم يكن تأخذه في تحقيق الأخبار لومة لائم ولا يجاري أحدا كما هو معلوم من طريقته خصوصا في البحار، منها ما في المجلد الثالث عشر في حديث ملاقاة سعد بن عبد الله الأشعري للعسكري (عليه السلام) على ما سبق في الصفحة 332 من المجلد الثالث من هذا الشرح بعد نقل كلام الشهيد (رحمه الله) في كون هذا الخبر موضوعا قال معترضا عليه: رد هذه الأخبار للتقصير في معرفة شأن الأئمة الأطهار إذ وجدنا أن الاخبار المشتملة على المعجزات الغريبة إذا وصل إليهم فهم إما يقدحون فيها أو في راويها بل ليس جرم أكثر المقدوحين من أصحاب الرجال إلا نقل مثل تلك الأخبار انتهى.
وليت شعري إن كان الشهيد الثاني مقصرا في معرفة الأئمة (عليهم السلام) فمن هو العارف بهم؟ وإن كان أصحاب الرجال وهم الشيخ الطوسي والنجاشي والعلامة الحلي وابن داود وأمثالهم غير معتمد عليهم في قدح المقدوحين لعدم معرفتهم بمقام الأئمة (عليهم السلام) فممن يجب أن نأخذ معالم ديننا وأدلة معارفنا، وأعجب منه قوله في المفيد عليه الرحمة فإنه بعد ما نقل فصولا من كلامه في رد بعض روايات ظاهرها الجبر قال في الصفحة 74 من المجلد الثالث: طرح الآيات والأخبار المستفيضة بأمثال تلك الدلائل الضعيفة والوجوه السخيفة (يعنى بها أفادات المفيد (قدس سره)) جرأة على الله وعلى أئمة الدين انتهى. ولا أدرى إن كان المفيد متجريا على الله والرسول والأئمة (عليهم السلام) فمن المؤمن الخائف من الله المطيع له ولرسوله، وكذلك لم ينج أكثر الفقهاء من طعن تلويحا أو تعريضا ولكن ذلك كله فلتات ولمم وبناؤه على تعظيمهم وتجليلهم والاعتراف بفضائلهم ومناقبهم إلا إذا ردوا خبرا أو ضعفوه أو أخرجوه من ظاهره بتأويل والله يهدي إلى سواء السبيل. (ش)
(٢٨٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 281 282 283 284 285 286 287 288 289 290 291 ... » »»
الفهرست