الدرجات فيها أو من الحجاب من الله سبحانه، وكل هذه الأمور مكروهة لذاتها ويختلف حال السالكين إلى الله فيها وأعلاها رتبة وهو الأخير أعني خوف الفراق والحجاب وهو خوف العارفين الناظرين لأنوار عظمته وجلاله، الغائصين في بحار لطفه وفضله وكماله، الذين أضاءت ساحة قلوبهم بمصباح الهداية الربانية وأشرقت مرآة ضمائرهم بأنوار المعارف الإلهية كما قال الله سبحانه (إنما يخشى الله من عباده العلماء) وأما ما قبله فهو خوف العابدين والصالحين والزاهدين ومن لم يكمل معرفته بعد وإذا عرفت الخوف ودرجاته فقس عليه ضده وهو الجرأة ودرجاتها لأن ضد كل درجة من الخوف درجة من الجرأة والأول من أعوان العقل وجنوده، والثاني من أعوان الجهل وجنوده فإذا وقع المطاردة بينهما في ساحة القلوب وميدان الأبدان واستظهر الجهل بالجرأة استظهر العقل بالخوف فيغلبه ويهزمه باذن الله تعالى ألا إن حزب الله هم الغالبون.
لا يقال: المعروف في مقابل الرهبة أعني الخوف هو الرجاء دون الجرأة لأن الرجاء ليس ضدا حقيقيتا للخوف ولا الخوف ضدا حقيقيا للرجاء لأنهما قد يجتمعان في قلب المؤمن بل افتراق أحدهما عن الآخر مذموم واجتماعهما ممدوح كما يدل عليه قوله تعالى في وصف العابدين (ويدعوننا رغبا ورهبا) وإنما الضد الحقيقي للرهبة هو الجرأة والضد الحقيقي للرجاء هو القنوط كما مر لعدم إمكان اجتماعهما في قلب واحد.
(والتواضع وضده الكبر) من أعاظم جنود العقل ومكارم الأخلاق الانسانية ومحاسن الأوصاف النفسانية التي يرتقي بها الإنسان إلى أعلى مدارج القرب والكمال ويصعد إلى أقصى معارج العز والجلال التواضع لله ولعباده المؤمنين كما أن من أفاخم جنود الجهل ومساوي الأخلاق ومذام الأوصاف التي يبعد بها الإنسان عن قرب رب العالمين ولا ينتهي قهقراه إلا إلى أسفل السافلين التكبر على الله وعلى عباده المسلمين ولكل واحد من المتواضع والمتكبر وتعزز وتذلل والتعزز للمتواضع من عند الله تعالى والتذلل من عند نفسه، وللمتكبر بالعكس ولا بد هنا من التكلم أولا في حقيقتهما وثانيا فيما هو سبب لحصول تلك الحقيقة، وثالثا فيما يلزمها ورابعا في المدايح والمذام الواردة فيهما أما حقيقة التواضع فهي هيئة نفسانية تحصل من تصور الإنسان نفسه أذل من غيره وأخس رتبة منه، ثم الاذعان به إذعانا جازما لا يشوبه شئ من الشكوك والأوهام.
وأما أسبابه فهي معرفة عظمة الله وجلاله وكبريائه وقهره وغلبته على جميع الممكنات ومعرفة نفسه وشدة احتياجه وكمال افتقاره إليه في جميع الأحوال ويكفي في حصول تلك المعرفة التأمل في قوله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين، ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما، فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر