شرح أصول الكافي - مولي محمد صالح المازندراني - ج ١ - الصفحة ٢٢٨
الغريزية التي في طينة الإنسان فلا تزال تلك الحرارة تحلل الرطوبة وتجففها وتبخرها وتفنيها فلو لم يتصل بالرطوبة مدد من الغذاء جبرا لما يتحلل لفسد المزاج وبطل التركيب في أسرع زمان، خلق الله سبحانه بمقتضى الحكمة البالغة قوة شهوية هي مبدء الشوق إلى طلب الغذاء والالتذاذ بالمآكل والمشارب والمناكح، والناس في تلك القوة على ثلاث درجات لأن تلك القوة كما بينا آنفا إ ن تحركت بالاعتدال واستقرت في الوسط مثل المركز بأن لا تتعدى عما أذن له العقل والشرع من الأغذية والأشربة والأنكحة وغيرها بل طاوعته فيما عداه (1) حظا ونصيبا لها واقتصرت عليه وتركت هواها حصلت فضيلة العفة وهي جند عظيم من جنود العقل منقادة لحكمه تابعة لأمره ونهيه، وإن تحركت نحو الافراط وجاوزت عن حكم العقل والشرع، وارتكبت من اللذات ما لم يأذنا لها حصلت رذيلة الهتك وخرق الأستار وهي مسماة بالشره والفجور أيضا ومعدودة من جند الجهل لانقياد حكمه واتباع أمره ونهيه وخروجه على سلطان العقل، وإن تحركت نحو التفريط وآثرت ترك طلب اللذات الضرورية التي أذن لها العقل والشرع واختارت البلية والمشقة التي تورث الهلاك حصلت رذيلة خمود الشهوة وهي أيضا من أضداد العفة وإنما اقتصر على الهتك الذي هو في طرف الإفراط لأن رذالته أشهر وضديته أظهر.
(والزهد وضده الرغبة) الزهد جعل القلب حيا بمشاهدة أحوال الآخرة وعدم الغفلة عنها وميتا عن طمع الدنيا وزخارفها، وبعبارة أخرى هو إعراض النفس عن الدنيا وزهراتها وقطع الالتفات إلى ما سوى الله تعالى وبعبارة أقصر هو حذف موانع الالتفات إليه سبحانه ولا يتحقق ذلك إلا بحذف الموانع الداخلة النفسية عن النفس مثل محبة غير الله تعالى والميل إلى ما سواه وحذف الموانع الخارجة مثل متاع الدنيا وزهراتها وإليه يشير قول بعض الأكابر الزهد ثلاثة أحرف زاء وهاء ودال فالزاي ترك الزينة، والهاء ترك الهواى، والدال ترك الدنيا، ومما يبعث على سلوك هذه الطريقة هو تلاوة القرآن الكريم والتدبر في آياته فإنها تثمر محبة الحق والتوجه إلى الآخرة وتغسل عن لوح القلب درن الوساوس وخبث الرذايل ورين الميل إلى الدنيا، ثم مطالعة أحوال الماضين ورفضهم ما كانوا عليه من الدنيا وزخارفها وانقطاع أيديهم عنها واستقرارهم في القبور، ثم التأمل في أحوال الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) مع كمال تمكنهم من الاستمتاع من الدنيا وتركهم لها طوعا ورغبة في ثواب الله ومقام القرب منه وذلك دليل على ذم الدنيا وعيبها وكثرة مساويها فانظر إلى حال كليم الله موسى بن عمران (عليه السلام) (2) إذ يقول: «رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير» وما سأله إلا خبزا يأكله لأنه

1 - ضمير التثنية للعقل والشرع (ش).
2 - مأخوذ من النهج خ 158 أولها «أمره قضاء» والدنيا المذمومة هي أن يكون الغاية والغرض والشيء المطلوب لذاته فإنه أصل كل خطيئة ورأس كل معصية فإن الإنسان لا يرتكب معصية من المعاصي من أكبر كبائرها كالظلم والقتل إلى أصغر صغائرها إلا لأن الدنيا مطلوبة عنده لذاته ولو عقل أن في الوجود عالما آخر روحانيا باقيا ببقاء الله وأن الإنسان من ذلك العالم ويرجع إليه البتة وأن اللذة فيه أضعاف ألذ اللذات التي يحصل له ههنا وأن الآلام هناك أضعاف أشد الآلام كالنار الدنيوية لم ينظر إلى الدنيا وزخارفها ولم يلتفت إلى لذاتها ولا يأسف على فوات شئ منها ولا يرتكب معصية توجب لذة عاجلة فانية وآلاما آجلة باقية (ش).
(٢٢٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 223 224 225 226 227 228 229 230 231 232 233 ... » »»
الفهرست