إحديهما (1) توجب الاضرار بالأخرى (ومحا طرايف حكمته) عن لوح العقل، قال بعض الحكماء: الحكمة شئ يجعله الله تعالى للقلب فينوره حتى يدرك به المشروعات والمحظورات ويعلم المعقولات والمستحيلات، كما أن البصر شئ يرى به المحسوسات، وسمى ذلك الشئ المنور للقلب حكمة تشبيها له بحكمة اللجام وهي الحديدة المعترضة في فم الفرس في منع صاحبه من الخروج عن طريق الصواب.
والطرائف جمع طريف وهو كل شئ مستحدث يعجبك، والإضافة إما بيانية أو من باب جرد قطيفة أو لامية بأن يراد بالطرائف العلوم والادراكات النابعة لذلك النور (بفضول كلامه) الفضل الزيادة وقد غلب جمعه على ما لا خير فيه حتى قيل: شعر فضول، وقيل: لمن يشتغل بما لا يعينه:
فضولي، والتكلم بما لا يعني سبب لمحو الحكمة وطرائفها لأن اللسان ينبوع القلب فإذا اعتاد المتكلم باللغو وتقاطر منه ذلك أفاض ذلك على القلب وهو يغسل الحكمة عنه ويمحوها.
ولأن مشرب القلب ضيق كلما دخل فيه شئ يخرج منه ضده ولو لم يخرجه بقي شئ مختلط من الحق والباطل وهذا ليس بحكمة كما أن قليلا من الماء إذا خالطه دم كثير لا يسمى هذا المختلط ماء، وأكثر الشبهات مبدؤها ذلك المختلط، وأيضا من أكثر الكلام في مجلس العوام يجد لنفسه في تأثير قلوبهم حلاوة ولذة فإذا دام على ذلك يميل طبعه الخسيس إلى كل كلام مزخرف يروجونه وإن كان باطلا ويتنفر عن كل كلام يستثقلونه وإن كان حكمة فيصرف همته إلى ما تحرك قلوبهم ليعظم منزلته عندهم فلا محالة ينمحي طرائف الحكمة عن قلبه لأن الذي يؤثر في قلوبهم ليس إلا ما فهموه وما فهموه ليس من الحكمة في شئ وأطفأ نور عبرته بشهوات نفسه العبرة هي ملاحظة أحوال الماضين والاتعاظ بما كانوا فيها من نعيم الدنيا ولذاتها والمباهات بكثرة العشيرة والأولاد والافتخار بكثرة أسبابها ومقنياتها، ثم مفارقتهم لذلك كله بالموت الذي هو هادم اللذات وكاسر الفقرات وبقاء الحسرة والندامة لهم حجبا حائلة بينهم وبين الرحمة الإلهية; وكل من اتصف بالعبرة ومارسها حتى صارت ملكة يحصل في قلبه نور يهديه إلى الآخرة وما يوجب تعميرها من الأعمال الصالحة والصفات الفاضلة ومن تبع النفس الأمارة بالسوء وشهواتها ورتع في مرعى ضلالتها ولذاتها حصل في قلبه ظلمة شديدة وغشاوة عظيمة مانعة عن دخول نور الاعتبار ونور الاستبصار، ومن سلط هذه الخصال الثلاث التي بناء الهوى والجهل عليها أعني طول الأمل وفضول الكلام والشهوات النفسانية