شرح أصول الكافي - مولي محمد صالح المازندراني - ج ١ - الصفحة ١٤٥
العقلاء زهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة، لأنهم علموا أن الدنيا طالبة مطلوبة والآخرة طالبة ومطلوبة، فمن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتى يستوفي منها رزقه ومن طلب الدنيا طلبته الآخرة فيأتيه الموت فيفسد عليه دنياه وآخرته. يا هشام من أراد الغنى بلا مال وراحة القلب من الحسد والسلامة في الدين، فليتضرع إلى الله عز وجل في مسألته بأن يكمل عقله، فمن عقل قنع بما يكفيه ومن قنع بما يكفيه استغنى ومن لم يقنع بما يكفيه لم يدرك الغنى أبدا.
* الشرح:
(يا هشام إن لقمان قالا لابنه: تواضع للحق تكن أعقل الناس) التواضع التذلل من الوضع وهو خلاف الرفع ويحصل ذلك بالاجتناب عن التكبر والافتخار وسائر المنهيات والآتيان بالأوامر والمصالح وسائر الخيرات والتمسك بحول الله وقوته في الحركات والسكنات ولا ريب في أن هذه خصلة عظيمة دلت على أن صاحبها من أعقل الناس لأن العقل هو الداعي إليها ويمكن أن يكون المراد أن تواضعك سبب لصيرورتك من أعقل الناس، ويؤيده ظاهر الشرط المقدر وتوجيه ذلك أن العقل من أفضل النعماء وشكرها التواضع وشكر النعمة يجلب الزيادة كما قال سبحانه (ولئن شكرتم لأزيدنكم) فالتواضع سبب لازدياد العقل وكماله (وإن الكيس لدى الحق يسير) الكيس - بفتح الكاف وتشديد الياء مع كسرها - من دان نفسه وعمل لما بعد الموت أي العاقل الذكي المتأني في الأمور وحسن عاقبتها، وقد كأس يكيس كيسا وكياسة يعني أن العاقل الذي يعمل بمقتضى عقله ويطلب ثواب الله ورضاه بتسديد قوتي العلم والعمل عند الحق قليل لظهور أن أكثر الناس تابع للنفس وهواها مشتغل بلذات الدنيا ومقتضاها كما نطق به الكتاب العزيز في مواضع عديدة والسنة النبوية في مواطن كثيرة، وهذا الحكم وإن كان ظاهرا لكن لما كان خلافه أولى صار بهذا الاعتبار محلا للانكار، فلذا أكده، ثم لا يبعد أن يكون الغرض من هذه الأخبار هو التنبيه على أن الاعتزال عن أكثر الناس أولى وأهم والفرار عنهم أحرى وأسلم، ويحتمل أن يكون الكيس - بفتح الكاف وسكون الياء - وهو العقل والذكاء وحسن التأني في الأمور.
واليسير أيضا بمعنى القليل يعني أن عقل الرجل وذكاء وحسن تأنيه وتدبره عند ظهور الحق وموافاته قليل كما هو المشاهد في أكثر الناس والمعلوم بالنظر إلى أحوالهم.
قيل: اليسير ضد العسير ومعناه أن كياسة الإنسان وهي عقله وفطانته سهل هين عند الحق لاقدر له وإنما الذي له قدر عند الله تعالى هو التواضع والمسكنة والخضوع والعجز والافتقار، فكل علم وكمال لا يؤدي بصاحبه إلى مزيد فقر وحاجة إليه سبحانه يصير وبالا عليه وكان الجهل والنقيصة أولى به ولذلك قيل غاية مجهود العابدين تصحيح جهة الامكان والفقر إليه تعالى فكل عالم كيس
(١٤٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 140 141 142 143 144 145 146 147 148 149 150 ... » »»
الفهرست