وخلق لهم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم كلها بل هذا العالم كله، وقد قال إمامنا ومولانا الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) في كتاب التوحيد للمفضل: أول العبر والأدلة على الباري جل قدسه تهيئة هذا العالم وتأليف أجزائها ونظمها على ما هي عليه، فانك إذا تأملته بفكرك وميزته بعقلك وجدته كالبيت المبني المعد فيه جميع ما يحتاج إليه عباده، فالسماء مرفوعة كالسقف والأرض ممدودة كالبساط والنجوم منضودة كالمصابيح والجواهر مخزونة كالذخائر وكل شئ فيها لشأنه معد والإنسان كالمملك ذلك البيت، والمحول فيه وضروب النبات مهيأة لمآربه وصنوف الحيوان مصروفة في مصالحه ومنافعه ففي هذا دلالة واضحة على أن العالم مخلوق بتقدير وحكمة ونظام وملائمة، وأن الخالق له واحد وهو الذي ألفه ونظمه بعضا إلى بعض جل قدسه وتعالى جده وكرم وجهه ولا إله غيره تعالى عما يقول الجاحدون وجل وعظم عما ينتحله الملحدون لقصور أفهامهم عن تأمل الصواب والحكمة فيما ذرأه الباري فخرجوا بقصر علومهم الجحود وبضعف بصائرهم إلى التكذيب والعنود حتى أنكروا خلق الأشياء وادعوا أن كونها بالاهمال لا صنعة فيها ولا تقدير ولا حكمة من مدبر ولا صانع تعالى الله عما يصفون وقاتلهم الله أنى يؤفكون. (إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون).
تأمل أيها اللبيب كيف جعل الله سبحانه هذه الأمور أدلة على معرفته ودل العقلاء الراسخين في علم على ربوبيته ومدحهم بذلك الفضل والروية، ومنحهم بتلك النعمة والعطية فأولئك هم المقربون يوم التناد، وأولئك هم المقصودون من الغرض في الإيجاد (وقال: هو الذي خلقكم من تراب) نسب خلق هذا النوع إلى التراب لأن خلق أول أفراده منه، ويحتمل أن يراد بالتراب الغذاء الذي يتكون منه المني (ثم من نطفة) النطفة الماء القليل ومنه سمي نطفة لقلته وجمعها نطف (ثم من علقة) هي قطعة جامدة منعقدة من الدم يتغير بالتدريج إلى أن تصير مضغة هي قطعة من اللحم قدر ما يمضغ وهي تنتهي بالتدريج إلى العظام المكسوة باللحم المنتهية بالتدريج إلى خلق آخر وهو صورة البدن المشتملة على القوى والروح الإنساني، ولم يذكر بعض هذه المراتب هنا لذكره قبل ذلك في مواضع أخر، وللإنسان في انتقالاته واستحالاته إلى أوان خروجه من بطن الأم الذي هو العالم الأول والعالم الأصغر منازل غير محصورة والمعروف منها هذه الستة التي أولها التراب يعني الغذاء، وثانيها العلقة، ورابعها المضغة، وخامسها العظام الكاسية باللحم. (1)