يحيط به العبارة والبيان، وكل هذا شواهد صادقة وآيات ناطقة بلسان حالها، مفصحة عن جلالة باريها وقدرته، ومعربة عن كمال صانعها وحكمته.
(والسحاب المسخر بين السماء والأرض) وهو يحمل مع ما فيه من الصواعق الصادعة والبروق اللامعة والرعود القارعة ثقل الماء وكثره مستقلا في الهواء ويجمع بعد تفرقه وينفجر بعد تمسكه ويرفع مرة ويدنو أخرى فتصفقه الرياح وتسوقه وتفرقه بأمر مدبره وخالقه فيما بين الأرض والسماء إلى البلدان النائية فيخرج الوقد من خلاله بقدر معلوم لمعاش ورزق مقسوم، ويرسل قطرة بعد قطرة وشيئا بعد شئ على رسله حتى يغمر البرك ويملأ الفجاج، ويعتلي الأودية وتحيى به الأرض الميتة فتصبح مخضرة بعد أن كانت مقبرة وتعود معشبة بعد أن كانت مجدبة وتكسو ألوانا من نبات ناضرة زاهرة مزينة معاشا للناس والأنعام ولو احتبس عن أزمنته وتخلف عن وقته هلكت الخليقة ويبست الحديقة، ثم إذا صب ما فيه أقلع وتفرق وذهب حتى لا يعاين ولا يدري أين يتوارى، فعرف العاقل حيت تفكر في ذلك أن له مدبرا حكيما عالما حيا قيوما وأن السحاب لو تحرك بنفسه وصب ما فيه بمقتضى طبعه لما مضى به ألف فرسخ وأكثر وأقرب من ذلك وأبعد ليرسل قطرة بعد قطرة بلا هدم ولا فساد ولا سارية إلى بلدة متجاوزا عن الأخرى. (لآيات لقوم يعقلون) أي في كل واحد من الأمور الثمانية آية ظاهرة ودلالة واضحة على وجود الصانع وقدرته وحكمته ووحدته واستحقاقه للعباد لقوم ينظرون إليه بعيون عقولهم الصحيحة ويعتبرونه ببصاير أذهانهم السليمة، أو في كل واحد منها آيات كثيرة كما يظهر لمن تأمل فيها تأملا عاريا عن الأوهام الفاسدة وقد يوجه بأن كل واحد منها يدل من حيث وجوده على وجود الصانع، ومن حيث حدوثه في وقت معين على إرادته وعلمه بالجزئيات، ومن حيث منافعه على حكمته واتقان صنعه وحسن تدبيره، ومن حيث ارتباط بعضه ببعض على وجه الانتظام والتعاون على وحدانيته.
وقال القاضي دلالة هذه الآيات على وجود الإله ووحدته من وجوه كثيرة يطول شرحها مفصلا، والكلام المجمل أنها أمور ممكنة وجد كل منها بوجه مخصوص من وجوه محتملة مثلا إذا كان من الجائز أن لا تتحرك السماوات أو بعضها كالأرض وأن تتحرك بعكس حركاتها وبحيث تصبر المنطقة دائرة مارة بالقطبين، وأن لا يكون لها أوج وحضيض أصلا وعلى هذا الوجه لبساطتها وتساوي أجزائها فلا بد لها من موجد قادر حكيم يوجدها على ما يستدعيه حكمته وتقتضيه مشيئته متعاليا عن معارضة غيره، إذ لو كان معه إله يقدر على ما يقدر عليه فإن توافقت إرادتهما فالفعل إن كان لهما لزم اجتماع مؤثرين على أثر واحد وإن كان لأحدهما لزم ترجيح الفاعل بلا مرجح وعجز الآخر المنافي لالهيته وإن اختلفت لزم التمانع والتطارد كما أشار إليه بقوله تعالى (قل لو كان فيهما آلهة إلا الله