شرح فصوص الحكم - محمد داوود قيصري رومي - الصفحة ٨١٦
المعنى هو سر القدر الذي يظهر لمن كان له قلب، يتقلب في أطوار عوالم الملك والملكوت، أو ألقى السمع بنور الإيمان الصحيح، وهو شهيد يشاهد أنوار الحق في بعض عوالمه الحسية والمثالية.
((فلله الحجة البالغة).) أي، فلله الحجة التامة القوية على خلقه فيما يعطيهم من الإيمان والكفر والانقياد والعصيان، لا للخلق عليه، إذ لا يعطيهم إلا ما طلبوا منه باستعدادهم. فما قدر عليهم الكفر والعصيان من نفسه، بل باقتضاء أعيانهم ذلك وطلبهم بلسان استعدادتهم أن يجعلهم كافرا أو عاصيا، كما طلب عين الحمار صورته وعين الكلب صورته، والحكم عليه بالنجاسة العينية أيضا مقتضى ذاته. وإذا أمعن النظر في غير الإنسان من الجمادات والحيوانات، يحصل له ما فيه شفاء ورحمة.
فإن قلت: الأعيان واستعداداتها فائضة من الحق تعالى، فهو جعلها كذلك.
قلت: الأعيان ليست مجعولة بجعل الجاعل، كما مر في المقدمات، بل هي صور علمية للأسماء الإلهية التي لا تأخر لها عن الحق إلا بالذات لا بالزمان، فهي أزلية وأبدية. والمعنى بالإضافة (التأخر) بحسب الذات لا غير (6)

٦ - قال الشارح الجامي، في نقد النصوص: (هي مجعولة بمعنى أنها فائضة منه بالتجليات الذاتية بصور شؤونه المستجنة في غيب هويته وذاته، بلا تخلل إرادة واختيار، بل بالإيجاب المحض). ولا يخفى ما في كلام الشارح الجامي، لأن الأسماء والأعيان، أي صور الأسماء، مفاضة عن الذات بالظهور الاستجناني العلمي بعد ما كانت مستجنة في غيب الهوية بالاستجنان الذاتي. ومبدأ ظهورها هو (المشيئة)، ولذا قيل: المشيئة أعم من الإرادة. ومثاله: أن النفس الناطقة يستخدم القوى الغيبية من دون إرادة تفصيلية، بل بمشيئة غيبية. وفي الجامع الكافي الشريف: (قال يونس بن عبد الرحمان: قال لي أبو الحسن الرضا، عليه السلام: يا يونس لا تقل بقول القدرية، فإن القدرية لم يقولوا بقول أهل الجنة، ولا بقول أهل النار، ولا بقول إبليس، فإن أهل الجنة قالوا: (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله). وقال أهل النار: (ربنا قد غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين). وقال إبليس: (رب بما أغويتني). إلى أن ساق الحديث الشريف بقوله: (يا يونس تعلم ما المشيئة؟ قلت: لا. قال: (هي الذكر الأول. فتعلم ما الإرادة؟ قال: هي العزيمة على ما يشاء...). فيعلم من هذا الحديث، الذي يلوح منه أنوار الولاية والهداية، أن (المشيئة) أعم من (الإرادة)، والإرادة إنما تكون من تعينات المشيئة ومتأخرة عنها. وتكون المشيئة في مقام ظهور الأسماء والصفات في المرتبة الألوهية أول ظهور الحب الذاتي المستجن في غيب الذات، وبه يظهر جميع التعينات في التعين الثاني، وأنه لا فرق بين التعين الأول والثاني إلا بالاعتبار. كما حقق في مقره. وإذا عرفت هذا، فنقول أن الكثرة في التعين الثاني اعتبارية، والتميز بين الأسماء ومظاهرها في الحضرة العلمية إنما هو بحسب المفهوم، ولهذا قالوا: إن الأسماء أو الأعيان غير مجعولة بلا مجعولية الذات. والمجعول أو المخلوق ما وقع تحت ذل كلمة (كن) الوجودية، ويتعلق به الإرادة التي عبر عنها الإمام أبو الحسن، عليه السلام، ب‍ (العزيمة) على ما يشاء. و (المشيئة) هي (الذكر الأول) وتعد من المفاتيح الغيبية أو مفاتح الغيب. وأما الإختيار الذي نفاه الملاجامي عن الحق، وصرح بالإيجاب ونفى الإختيار رأسا، إنما هو حقيقة الإختيار التي نسميها (المشيئة) و (الذكر الأول) والعلم البسيط الإجمالي في عين الكشف التفصيلي. وفي هذا الموطن والمشهد الإختيار وما يتعلق به، والمختار موجود بوجود جمعي، مصون عن غبار الكثرة. وأما استناد الإيجاب المحض إلى الذات ناش عن عدم تدرب الجامي وأترابه في العقليات والنظريات. (ج)
(٨١٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 810 811 813 814 815 816 817 818 819 820 821 ... » »»