الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٣ - الصفحة ٣٤٨
فانظر ماذا ترى؟ قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين.
فلما أسلما وتله للجبين. وناديناه أن يا إبراهيم. قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزى المحسنين. إن هذا لهو البلاء المبين.
____________________
يقول الممتحن وقد رأى أنه راكب في سفينة رأيت في المنام أنى ناج من هذه المحنة. وقيل رأى ليلة التروية كأن قائلا يقول له: إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا، فلما أصبح روى في ذلك من الصباح إلى الرواح أمن الله هذا الحلم أو من الشيطان؟ فمن ثم سمى يوم التروية، فلما أمسى رأى مثل ذلك فعرف أنه من الله فمن ثم سمى يوم عرفة، ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهم بنحره فسمى اليوم يوم النحر. وقيل إن الملائكة حين بشرته بغلام حليم قال هو إذن ذبيح الله، فلما ولد وبلغ حد السعي معه في له أوف بنذرك (فانظر ماذا ترى) من الرأي على وجه المشاورة، وقرئ ماذا ترى: أي ماذا تبصر من رأيك وتبديه، وماذا ترى على البناء للمفعول: أي ماذا تريك نفسك من الرأي (افعل ما تؤمر) أي ما تؤمر به فحذف الجار كما حذف من قوله * أمرتك الخير فافعل ما أمرت به * أو أمرك على إضافة المصدر إلى المفعول وتسمية المأمور به أمرا، وقرئ ما تؤمر به. فإن قلت: لم شاوره في أمر هو حتم من الله؟ قلت: لم يشاوره ليرجع إلى رأيه ومشورته ولكن ليعلم ما عنده فيما نزل به من بلاء الله فيثبت قدمه ويصبره إن جزع ويأمن عليه الزلل إن صبر وسلم، وليعلمه حتى يراجع نفسه فيوطنها ويهون عليها ويلقى البلاء وهو كالمستأنس به، ويكتسب المثوبة بالانقياد لأمر الله قبل نزوله، ولأن المغافصة بالذبح مما يستسمج وليكون سنة في المشاورة، فقد قيل: لو شاور آدم الملائكة في أكله من الشجرة لما فرط منه ذلك. فإن قلت: لم كان ذلك بالمنام دون اليقظة؟ قلت: كما أرى يوسف عليه السلام سجود أبويه وإخوته له في المنام من غير وحى إلى أبيه وكما وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم دخول المسجد الحرام في المنام وما سوى ذلك من منامات الأنبياء وذلك لتقوية الدلالة على كونهم صادقين مصدوقين لأن الحال إما حال يقظة أو حال منام، فإذا تظاهرت الحالتان على الصدق كان ذلك أقوى للدلالة من انفراد أحدهما. يقال سلم لأمر الله وأسلم واستسلم بمعنى واحد وقد قرئ بهن جميعا إذا انقاد له وخضع، وأصلها من قولك سلم هذا لفلان إذا خلص له، ومعناه: سلم من أن ينازع فيه، وقولهم سلم لأمر الله وأسلم له منقولان منه وحقيقة معناهما: أخلص نفسه لله وجعلها سالمة له خالصة، وكذلك معنى استسلم استخلص نفسه لله. وعن قتادة في أسلما: أسلم هذا ابنه وهذا نفسه (وتله للجبين) صرعه على شقه فوقع أحد جنبيه على الأرض تواضعا على مباشرة الأمر بصبر وجلد ليرضيا الرحمن ويخزيا الشيطان. وروى أن ذلك كان عند الصخرة التي بمنى. وعن الحسن: في الموضع المشرف على مسجد منى. وعن الضحاك: في المنحر الذي ينحر فيه اليوم. فإن قلت: أين جواب لما؟ قلت: هو محذوف تقديره: فلما أسلما وتله للجبين (وناديناه أن إبراهيم قد صدقت الرؤيا) كان ما كان مما تنطق به الحال ولا يحيط به الوصف من استبشارهما واغتباطهما وحمدهما لله وشكرهما على ما أنعم به عليهما من دفع البلاء العظيم بعد حلوله، وما اكتسبا في تضاعيفه بتوطين الأنفس عليه من الثواب والإعواض ورضوان الله الذي ليس وراءه مطلوب، وقوله (إنا كذلك نجزى المحسنين) تعليل لتخويل ما خولهما من الفرج بعد الشدة والظفر بالبغية بعد اليأس (البلاء المبين) الاختبار البين الذي يتميز
(٣٤٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 342 343 344 345 347 348 349 350 351 352 353 ... » »»