فيض القدير شرح الجامع الصغير - المناوي - ج ١ - الصفحة ١٣٤
وكسر الموحدة الأولى (من شئت) من الخلق (فإنك مفارقه) بموت أو غيره وما من أحد في الدنيا إلا وهو ضعيف وما بيده عارية فالضيف مرتحل والعارية مردودة قال الغزالي للقصد بهذا تأديب النفس عن البطر والأشر والفرح بنعيم الدنيا بل بكل ما يزايله بالموت فإنه إذا علم أن من أحب شيئا يلزمه فراقه ويشقى لا محالة بفراقه شغل قلبه بحب من لا يفارقه وهو ذكر الله فإن ذلك يصحبه في القبر فلا يفارقه وكل ذلك يتم بالصبر أياما قلائل فالعمر قليل بالإضافة إلى حياة الآخرة وعند الصباح يحمد القوم السرى فلا بد لكل إنسان من مجاهدة فراق ما يحبه وما فيه فرحه من أسباب الدنيا وذلك يختلف باختلاف الناس فمن يفرح بمال أو جاه أو بقبول في الوعظ أو بالعز في القضاء والولاية أو بكثرة الاتباع في التدريس والإفادة يترك أولا ما به فرحه ثم يراقب الله حتى لا يشتغل إلا بذكر الله والفكر فيه ويكف عن شهواته ووساوسه حتى يقمع مادتها ويلزم ذلك بقية العمر فليس للجهاد آخر إلا الموت. قيل صاح طوطي بحضرة سليمان فقال تدرون ما يقول قالوا الله ورسوله أعلم قال يقول كل حي ميت وكل جديد بال. وقال النسر يقول في صياحه يا ابن آدم اعمل ما شئت آخرك الموت (واعمل ما شئت) من خير (فإنك مجزي به) بفتح الميم وسكون الجيم وكسر الزاي وشد المثناة تحت أي مقضى عليك بما يقتضيه عملك وبضم الميم وفتح الزاي منونا أي مكافأ عليه. ولما ذكر الموت والمجازاة وخوف بما علم منه أن من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره (الزلزلة: 7 و 8) أردفه ببيان أعظم نافع من تلك الأهوال فقال (واعلم) بصيغة الأمر إفادة لغير ما علم للدلالة على أنه تعلم وعلم لأن العلم لا يتم حتى يصل إلى الغير فيجمع فضل العلم والتعليم ذكره الحراني (أن شرف المؤمن) رفعته قال الزمخشري من المجاز لفلان شرف وهو علو المنزلة (قيامه بالليل) أي علاه ورفعته إحياء الليل بدوام التهجد فيه والذكر والتلاوة وهذا بيان لشئ من العمل المشار إليه بقوله اعمل ما شئت، ولما كان الشرف والعز أخوين استطرد ذكر ما يحصل به العز فقال (وعزه) قوته وعظمته وغلبته على غيره (استغناؤه) اكتفاؤه بما قسم له (عن الناس) أي عما في أيديهم ولهذا قال حاتم لأحمد وقد سأله: ما السلامة من الدنيا وأهلها؟ قال: أن تغفر لهم جهلهم وتمنع جهلك عنهم وتبذل لهم ما في يدك وتكون مما في أيديهم آيسا قال الغزالي: ومن لا يؤثر عز النفس على شهوة البطن فهو ركيك العقل ناقص الإيمان ففي القناعة العز والحرية ولذلك قيل استغن عمن شئت فأنت نظيره واحتج إلى من شئت فأنت أسيره وأحسن إلى من شئت فأنت أميره وقال بعضهم: الفقر لباس الأحرار والغنى بالله لباس الأبرار والقيام انتصاب القامة ولما كانت هيئة الانتصاب أكمل هيئات من له القامة وأحسنها استعير ذلك للمحافظة على استعمال الإنسان نفسه في الصلاة ليلا فمعنى قيام الليل المحافظة على الصلاة فيه وعدم تعطيله باستغراقه بالنوم أو اللهو قال الزمخشري: قام على الأمر دام وثبت. وقد تضمن الحديث التنبيه على قصر الأمل والتذكير بالموت واغتنام العبادة وعدم الاغترار
(١٣٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 129 130 131 132 133 134 135 136 137 138 139 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة