مواهب الجليل - الحطاب الرعيني - ج ٣ - الصفحة ٥٠٣
القعود إلى سنة أخرى فقيض الله لي مسلفا فخرجت في الحين. قلت: فإذا كانت سبب لذلك فالجزم تركها أو يقال: وجه استحبابه إخلاص النية للعبادة حتى لا يشوبها شئ من أعمال الدنيا وهو الظاهر من كلامه. لأنه استحب تركها ذاهبا وراجعا انتهى كلام ابن المعلى، وقد اعترض على الشيخ يحيى النووي في قوله راجعا إذا لم تكن معه في الذهاب ولم تشغله ثم قال: وقوله فإن أتجر إلى آخره يريد بشرط أن يخلص للحج النية وتكون التجارة بحكم التبعية لا بالعكس. وقد بالغ أيضا في مسألة الاخلاص في النية وحكم العبادة إذا كان البعث عليها أغراضا دنيوية وحرره غاية التحرير الامام القرطبي في شرح قوله (ص): من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا الحديث. فقال: يفهم منه اشتراط الاخلاص في الجهاد وكذلك هو شرط في جميع العبادات لقوله تعالى: * (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) * والاخلاص مصدر أخلصت العسل إذا صفيته من شوائب كدره. فالمخلص في عبادته هو الذي يخلصها من شوائب الشرك والرياء وذلك لا يتأتى له إلا بأن يكون الباعث له على عملها قصد التقرب إلى الله تعالى وابتغاء ما عنده، فأما إذا كان الباعث عليها غير ذلك من أغراض الدنيا فلا تكون عبادة بل تكون مصيبة موبقة لصاحبها فإما كفر وهو الشرك الأكبر وإما رياء وهو الشرك الأصغر ومصير صاحبه إلى النار كما جاء في حديث أبي هريرة في الثلاثة المذكورين فيه.
قلت: الحديث المشار إليه في مسلم ونصه عنه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: إن أول الناس يقضي عليه يوم القيامة رجل استشهد في سبيل الله فأتي به فعرفه الله نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبت ولكن قاتلت ليقال فلان جرئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتى به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت لي فيه؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك. قال: كذبت ولكنك تعلمت العلم وعلمته وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها. قال: فما فعلت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك. قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. قال الامام المذكور: هذا إذا كان الباعث على تلك العبادة الغرض الدنيوي وحده بحيث لو فقد ذلك الغرض لترك العمل، وأما لو انبعث للعبادة بمجموع الباعثين باعث الدين وباعث الدنيا، فإن كان باعث الدنيا أقوى أو مساويا لحق بالقسم الأول في الحكم
(٥٠٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 498 499 500 501 502 503 504 505 506 507 508 ... » »»
الفهرست