شرح فصوص الحكم - محمد داوود قيصري رومي - الصفحة ١٣٠
سلم وجودهما في دار الدنيا بقوله: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر). كما أثبت في عالم البرزخ بقوله: (القبر روضة من رياض الجنة (7)) للمؤمن (أو حفرة من حفر النيران) للكافر. وأمثال ذلك. وفي العالم الانساني لهما أيضا وجود، إذ مقام الروح والقلب وكمالاتهما عين النعيم ومقام النفس والهوى ومقتضياتهما نفس الجحيم، لذلك من دخل مقام القلب والروح واتصف بالأخلاق الحميدة والصفات المرضية يتنعم بأنواع النعم. ومن وقف مع النفس ولذاتها والهوى و شهواتها يتعذب بأنواع البلايا والنقم. وآخر مراتب مظاهرهما في الدار الآخرة. و لكل من هذه المظاهر لوازم يليق بعالمه. وكذلك للساعة أنواع خمسة (8) بعدد الحضرات الخمسة. منها ما هو في كل آن وساعة، إذ عند كل آن يظهر من الغيب إلى الشهادة ويدخل منها إلى الغيب من المعاني والتجليات والكائنات والفاسدات وغيرها ما لا يحيط به الا الله لذلك سميت باسمها (9). قال تعالى: (بل هم في لبس من خلق جديد)، (كل يوم هو في شأن). منها الموت الطبيعي كما قال، عليه السلام: (من مات فقد قامت قيامته). وبإزائه الموت الإرادي الذي يحصل للسالكين المتوجهين إلى الحق قبل وقوع الموت الطبيعي. قال عليه السلام: (من أراد ان ينظر إلى ميت يمشى على وجه الأرض فلينظر إلى أبى بكر). وقال: (موتوا قبل ان تموتوا). فجعل عليه السلام، الاعراض عن متاع الدنيا وطيباتها والامتناع عن مقتضيات النفس ولذاتها وعدم اتباع الهوى موتا. لذلك ينكشف للسالك ما ينكشف للميت، ويسمى بالقيامة الصغرى. وجعل بعضهم الموت الإرادي مسمى بالقيامة الوسطى لزعمه انه يقع بين القيامة الصغرى التي هي الموت الطبيعي الحاصل له في النشأة السابقة والقيامة الكبرى التي هي الفناء في الذات (10) فيه نظر لا يخفى على الفطن. ومنها ما هو موعود منتظر للكل كقوله تعالى: (ان الساعة آتية لا ريب فيها) - (ان الساعة (11) آتية أكاد أخفيها) و غير ذلك من الآيات الدالة عليها. وذلك بطلوع شمس الذات الأحدية من مغرب المظاهر الخلقية وانكشاف الحقيقة الكلية وظهور الوحدة التامة وانقهار الكثرة كقوله: (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) وأمثاله. وبإزائه

(7) - اعلم، ان الانسان ما دام في قبره فهو في صندوق من عمله وهو المادة الجسمية المصورة بصور أعماله الحسنة أو السيئة حسبما اقتضته ضيعته الشريفة أو الخسيسة، وهي القرن النوري والعالم المتوسط الخيالي والبرزخ الذي بين الدنيا والآخرة، فهو اما روضة من رياض الجنان أو حفرة من حفر النيران. والصور التي في هذا القرن بعضها مقيدة عن العمل وبعضها مطلقة منه كأرواح الأنبياء والأولياء. ومنها ما يكون لها نظر إلى عالم الدنيا وكذلك قوم فرعون يعرضون على النار في ذلك الصور، غدوا وعشيا، ولا يدخلونها لأنهم محبوسون في ذلك القرن ويوم القيامة أشد من العذاب المحسوس لا القليل الذي كان لهم في البرزخ. ومن الذي قلنا اتضح ان البرزخ عبارة عن كون النفس حين ما فارقت هذا البدن العنصري متعلقة بالجسم الحقيقي النوري الخالص عن كدورات الغواشي العنصرية والكيفيات المزاجية وهو ملكوت هذا البدن كما ان كليته ملكوت عالم الدنيا و عرش الجسمانيات وهو عمله المتجسد له في البرزخ، إذ النفس بحسب اختياراته المحمودة والمذمومة انما صنعت هذا الجسد البرزخي حيث غلب الماء العذب والأجاج أحدهما على الاخر بحسب آرائها وأخلاقها وأفعالها. فهذا البدن عملها الذي لا يفارقها ولا يتخلص منه نفس ما دامت إذ هي التي صنعتها لنفسها واختارته لرمسها. وهذا العالم البرزخي هو القرن المحيط بجميع الصور الكونية، وهو الصور الملقم في فم إسرافيل من الملائكة، وهو عالم الخيال والمثال لكونه مما يدرك بالخيال لا بغيره من المدارك والمشاعر لا انه امر خيالي وهمي كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، بل هو عالم موجود وشئ مشهود، ولذاته وآلامه كلها جسمانية حقيقة لكن المدرك هو الخيال وله السلطان في هذا المثال لان هذا اليوم يوم ظهور دولته وشهود سلطنته فالمدرك الخيال في هذا اليوم، والمدرك أعم من المحسوس والمتخيل والمعقول. وذلك لسعة الخيال ونوريته وكونه مظهرا للاسم النور، حتى ان نوره ينفذ في كل شئ حتى المعدوم والمحال فيلبسه لباس الوجود وأكساه كسوة الشهود. وهذا العالم هو أول مقام الوصول إلى الجسمية الحقيقية الفسيحة الارجاء، فرأت نفسها محاطة بالخطيئة ومتلخطة بالهيآت الدنية والأعمال القبيحة فهو من ضيق مرقده، وإذا رأت نفسها محاطة بالحسنى كانت في غاية السعة والفسحة: بر من جفاز بخت بد آمد وگرنه يار حاشا كه رسم جور ونشان ستم نداشت. من هنا ظهر عدم اختصاص عذاب القبر وضغطته بان يكون في الأرض بل يكون في الهواء والماء. (محمد على) (8) - ثلاثة منها ما ذكر، والقسمان الآخران: الموت الإرادي وظهور الوحدة للشخص العارف عند فناء نفسه. 12 (9) - سميت الساعة بالساعة لأنها تسعى إلى الله.
(10) - لأنه ليس توسط بينهما، أقول، لعل المراد من التوسط الرتبي فان الموت الإرادي فوق الطبيعي بحسب الرتبة لان الموت الإرادي يقع قبل الموت الطبيعي. 12 (11) - القيامة الكبرى وهي الفناء في الأحدية.
(١٣٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 118 119 127 128 129 130 131 137 138 139 141 ... » »»