شرح فصوص الحكم - محمد داوود قيصري رومي - الصفحة ٨٠٩
صفاته بذاته، ويعلم الأعيان التي هي صور الأسماء بعين ما يعلم ذاته، فكما لا يعلم من ذاته وأسمائه وصفاته إلا ما تعطيه الذات والأسماء والصفات مما هي عليها، كذلك لا يعلم من الأعيان إلا ما تعطيه الأعيان واستعداداتها مما هي عليها، فعلمه تعالى تابع للمعلوم من هذا الوجه، وإن كان المعلوم تابعا للعلم من وجه آخر. فمن كانت عينه مؤمنة حال ثبوتها وحال كونها موصوفة بالعدم بالنسبة إلى الخارج، فهو يظهر مؤمنا عند سماع أمر الله بقوله: (كن). ومن كان كافرا أو عاصيا أو منافقا، فهو يظهر في الوجود العيني بتلك الصفة. فالحق ما يعاملهم إلا بما يقتضى أعيانهم باستعداداتها وقبولها: إن خيرا، فخير، وإن شرا، فشرا. فمن وجد خيرا، فليحمد الله، ومن وجد دون ذلك، فلا يلومن إلا نفسه - (فما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون).
ولما تكلم من طرف القابل، تكلم من طرف الفاعل بقوله: (كذلك ما قلنا لهم...) أي، ما أمرناهم إلا ما يقتضيه ذاتنا وأسماؤنا، فمنا القول والأمر، و منهم السماع والامتثال.
ولما كان الأمر من الله على قسمين: قسم لا يمكن أن لا يمتثل له شئ من الأعيان، وقسم يمكن أن لا يمتثل له بعض الأعيان، قال: (ولهم الامتثال و عدم الامتثال مع السماع منهم.) أما الأول، فهو الأمر الذي به توجد الأعيان، و هو قول: (كن). إذ عدم الامتثال فيه محال، لأن أعيان الممكنات كلها طالبة للوجود العيني من الحضرة الإلهية، فلا يمكن أن لا يمتثل له شئ منها. وأما الثاني، فهو الأمر بالإيمان والهداية وتوابعهما، فإن من لا تكون عينه قابلة له أو للوازمه، لا يمكن أن يمتثل له.
(فالكل منا ومنهم والأخذ عنا وعنهم) أي، فكلما يحصل من التجليات والأحوال العارضة على الموجودات، منا بحسب الفاعلية، ومنهم بحسب القابلية، وتلك التجليات والأحوال بحسب أخذ العلم عن ذاتنا مما هي عليها من الأسماء والصفات، وعن ذواتهم، لأن
(٨٠٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 804 805 806 807 808 809 810 811 813 814 815 ... » »»