للحقائق مجردة عن الصور الحسية. وكل منها بعين نفسه أو ربه. والمراد هنا كلا المعنيين: الحضور، والرؤية في عالم الخيال. أما الحضور، فإنه لو لم يكن حاضرا أو مراقبا، لا يحصل له الرؤية المثالية. فالذي يلقى سمعه، يكون مشاهدا للأشياء في حضرة الخيال، ويكون مؤمنا لما في باقي الحضرات. لذلك قال: (ينبه على حضرة الخيال واستعمالها.) أي، الحق ينبه بهذا القول على حضرة الخيال، إذ أول ما ينكشف للمؤمن حضرة الخيال، وهو المثال المقيد، ثم يسرى إلى المثال المطلق الذي هو عالم الأرواح. كما مر بيانه. وكذلك ينبه على الوصول إلى هذا المقام، و هو المراد بقوله: (واستعمالها). أي، واستعمال الحضرة الخيالية. وهي القوة التي فيها تظهر الصور الخيالية، واستعمالها إنما يكون بالتجرد التام والتوجه الكلى بالقلب إلى العالم العلوي، من غير اتباع العقل واستعمال للمفكرة. فإنه كما يتحرك، ينفتح له طريق الفكر وينسد عليه باب الكشف، بل يتوجه توجها تاما عند تسكين المفكرة عن حركاتها بالذكر.
(وهو قوله، عليه السلام، في الإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه. والله في قبلة المصلى). فلذلك هو شهيد.) (هو) عائد إلى (الاستعمال). أو (الشهود). أي، ذلك الاستعمال، أو الشهود، كقوله، عليه السلام، في الإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه). أي، بمراقبة تامة وتوجه كلي، كأنك مشاهد للحق، لأن مثل هذه المراقبة تفتح أبواب الغيوب، فتحصل هذه الرؤية العيانية، فيرتفع حكم، كأن الذي كان يقوم مقام المشاهدة.
وقوله: (والله في قبلة المصلى) هذا أيضا حديث آخر صحيح، فإن كان المصلى ممن تكحل عينه بنور الحق واحتد بصره، فيراه رؤية العين، وإلا فينبغي أن يراقب بجمعية تامة، ليكون كأنه يراه.
وقوله: (فلذلك هو شهيد.) أي، فلكون الحق في قبلة المصلى بصلاة الحضور والمراقبة، هو شهيد للحق، مشاهدا لوجهه الكريم في قبلته. ومن يكمل استعداده ويقوى كشفه، شاهد الحق في جميع الجهات، فإنه فيها كلها، كما قال: (أينما تولوا فثم وجه الله).