شرح فصوص الحكم - محمد داوود قيصري رومي - الصفحة ٥١٩
عليه وسلم، قومه إلى الظاهر في عين الباطن، وإلى الباطن في عين الظاهر. و هو المراد بقوله: (ليلا في نهار ونهارا في ليل). أو إلى الوحدة في عين الكثرة، وإلى الكثرة في عين الوحدة. و (ما دعا ليلا ونهارا) أي، إلى الغيب والوحدة وحده، و إلى الشهادة والكثرة وحدها.
(وقال نوح في حكمته لقومه: (يرسل السماء عليكم مدرارا) وهي المعارف العقلية في المعاني والنظر الاعتباري و (يمددكم بأموال) أي بما يميل بكم إليه. فإذا مال بكم إليه، رأيتم صورتكم فيه). اعلم، أن السماء في الحقيقة عالم الأرواح، والأرض عالم الأجسام. ولا يفيض من عالم الأرواح إلا الأنوار الملكوتية والمعارف العقلية الموجبة للكشف واليقين، ليعتبروا بما حصل لهم ما لم يحصل ويؤمنوا بالحق وكمالاته بما أفاض عليهم من آياته. فلما كان الأمر كذلك، أشار نوح إلى قومه و بين حكمة ما دعاهم إليه بقوله: (يرسل السماء عليكم مدرارا). أي، يرسل الحق عليكم من السماء المعارف العقلية والعلوم الحقيقية، ويعطيكم النظر الاعتباري في الأشياء، ليستدلوا بوجودكم على وجود الحق، وبوحدتكم على وحدته، وبذواتكم على ذاته، وبما في عالم الشهادة، من الموجودات والكمالات، على ما في الغيب من العقول والنفوس وكمالاتهم. ويمددكم بأموال، أي، بتجليات حبية وجواذب جمالية، ليجذبكم إليه، ويوصلكم إلى مقام الفناء فيه، ويتجلى لكم بالتجلي الذاتي، وعند هذه التجلي تشاهدون أعيانكم في مرآة الحق.
وإنما فسر (الأموال) ب‍ (ما يميل بكم إليه) تنبيها على أن (المال) إنما سمى مالا لميل القلوب إليه. وضمير (فيه) راجع إلى ما يرجع ضمير (إليه) وهو (الحق).
(فمن تخيل منكم إنه رآه، فما عرف، ومن عرف منكم إنه رأى نفسه، فهو العارف. فلهذا انقسم الناس إلى عالم وغير عالم). (الفاء) للتعقيب. أي، بعد أن رأى صورته في الحق من تخيل منكم أنه رأى الحق، فما عرف، لأن ذاته، من حيث هي هي، لا يمكن أن ترى. والرؤية إنما تحصل عند التنزل والتجلي بما يمكن أن يرى، كما قال، صلى الله عليه وسلم: (سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر) وشبه برؤية القمر. ومن عرف منكم أنه رأى نفسه وعينه، فهو العارف
(٥١٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 514 515 516 517 518 519 520 521 522 523 524 ... » »»