شرح فصوص الحكم - محمد داوود قيصري رومي - الصفحة ٦٥
معدومة في الخارج والمجعول لا يكون الا موجودا، كما لا يوصف الصور العلمية والخيالية التي في أذهاننا بأنها مجعولة ما لم توجد في الخارج، ولو كانت كذلك لكانت الممتنعات (33) أيضا مجعولة لأنها صور علمية. فالجعل انما يتعلق بها بالنسبة إلى الخارج وليس جعلها الا ايجادها في الخارج لا ان الماهية جعلت ماهية فيه (34)، و بهذا المعنى تعلق الجعل بها في العلم أولى، وحينئذ يرجع النزاع لفظيا (35) إذ لا يمكن ان يقال ان الماهيات ليست بإفاضة مفيض في العلم واختراعه والا يلزم ان لا يكون حادثة بالحدوث الذاتي، لكنها ليست مخترعة كاختراع الصور الذهنية التي لنا إذا أردنا اظهار شئ لم يكن، ليلزم تأخر الأعيان العلمية عن الحق في الوجود تأخرا زمانيا، بل علمه تعالى ذاته بذاته يستلزم الأعيان من غير تأخرها عنه تعالى في الوجود فبعين العلم الذاتي يعلم تلك الأعيان لا بعلم آخر، كما توهم من جعل علمه بالعالم عين العقل الأول (36)، فافهم.
تنبيه آخر اعلم، ان للأعيان الثابتة اعتبارين (37): اعتبار انها صور الأسماء (38)، واعتبار انها حقايق الأعيان الخارجية. فهي بالاعتبار الأول كالأبدان للأرواح وبالاعتبار الثاني كالأرواح للأبدان. وللأسماء أيضا اعتباران: اعتبار كثرتها واعتبار وحدة الذات المسماة بها كما مر. فباعتبار تكثرها محتاجة إلى الفيض من الحضرة الإلهية الجامعة لها وقابلة له كالعالم، وباعتبار وحدة الذات الموصوفة بالصفات أرباب لصورها فياضة إليها، فبالفيض الأقدس الذي هو التجلي بحسب أولية الذات و باطنيتها يصل الفيض من حضرة الذات إليها وإلى الأعيان دائما، ثم بالفيض المقدس الذي هو التجلي بحسب ظاهريتها وآخريتها وقابلية الأعيان و استعداداتها يصل الفيض من الحضرة الإلهية إلى الأعيان الخارجية. وكل عين (39) هي كالجنس لما تحتها واسطة في وصول ذلك الفيض إلى ما تحتها من وجه إلى ان ينتهى إلى الاشخاص كوساطة العقول والنفوس المجردة إلى ما تحتها مما في عالم الأكوان والفساد وان كان يصل الفيض إلى ماله وجود من الوجه الخاص الذي له

(33) - أي، الأعيان المقتضية للبطون.
(34) - هيهنا بحث، حاصله ان الماهيات الممكنة كما انها محتاجة إلى الفاعل في وجودها الخارجي كذلك محتاجة إليه في وجودها العلمي، سواء كان ذلك الفاعل مختارا أو موجبا. فالمجعولية بمعنى الاحتياج إلى الفاعل من لوازم الماهية الممكنة مطلقا، فإنها أينما وجدت كانت متصفة بهذا الاحتياج. وان فسر المجعولية بأنها الاحتياج إلى الفاعل في الوجود الخارجي كان الكلام صحيحا والتقييد تكلفا. (نقد النصوص) (35) - أي، النزاع في ان الماهيات مجعولة أم لا. والحاصل ان الماهيات الحاصلة في العلم لا يتعلق بها الجعل، بمعنى الوجود العيني، بما هي صور علمية. واما الجعل بمعنى كونها وجودات خاصة فيتعلق بها قطعا. 12 (36) - إشارة إلى ان كون العقل الأول علما آخر انما هو باعتبار تباين الوجودات كما هو عند الحكماء. (غلامعلى) (37) - أي، اعتبار كونها منظورا بها واعتبار كونها منظورا فيها. تدبر. (غلامعلى) (38) - أي، ما به يمتاز الأسماء كل عن الآخر.
(39) - اعلم، ان الأعيان كلها راجعة في الحقيقة إلى عين واحدة جامعة لها وهي عين الانسان الكامل الختمي كما ان الأسماء كلها راجعة إلى اسم واحد جامع لها بوحدته وهو الاسم المربى لعين الانسان الكامل. ومن هنا يعلم سر كون عينه مفتاح المغفرة الكبرى عند الفتح المبين وهو ظهور الأشياء بشراشرها على ما هي عليه لفناء صاحبه بالكلية إنيته في الحق المتعال، على سبيل الاستهلاك والاضمحلال. وبالجملة، يتبدل وجوده الامكاني بالوجود الحقاني وفناؤه في حقيقة عينه، وهذا هو المعنى بالوصول التام الأتم المعبر عنه بالفتح المبين في قوله تعالى: (انا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر). والذنب كل ما يبعد العبد عن المعبود كما ان الطاعة كل ما يقربه إليه. فالذنب المتقدم في الحقيقة هو المبعدات التي تحصل في السلسلة النزولية اللازمة للتنزلات الوجودية وتشأن الحقيقة الإلهية بشؤونه وصور كمالاته، والذنب المتأخر هو أيضا النقصانات والمبعدات لكن في السلسلة الصعودية. والانسان الكامل الختمي يجبر تلك النقصانات و يمحوها ويسترها بالوصول إلى عين الحقيقة وهذا معنى المغفرة. فافهم ولا تكن من الجاهلين. (غلامعلى)
(٦٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 51 61 62 63 64 65 66 67 68 75 76 ... » »»