فالتاريخ حكيم يريك الذين أساؤوا وظلموا كيف انخفضوا وتسافلوا، وكيف سجل لهم التاريخ العادل على صفحات سوداء نفوسا قذرة وأفعالا نكرة، كلما تذكرهم إنسان ذكرهم بالخزي واللعنة، والتقبيح والمذمة.
ويريك الذين أحسنوا واتقوا كيف ارتفعوا وتساموا، وسجل لهم التاريخ العادل على صفحة بيضاء بأحرف من نور حياة لا تموت ووجودا لا يفقد.
فأقول فما العلم إلا بتاريخه، وما الأمم إلا بماضيها، ومن لا ماضي له لا حاضر له، ومن لا طفولة له لا شباب له ولا شخصية سوية له.
يقول أوغست كونت (1798 - 1857) " إن تاريخ العلم هو العلم نفسه ". لذا فإن عزل الماضي عن الحاضر هو فصل لوحدة التاريخ، ولا أحد يملك التاريخ حتى يفصل بين أجزائه. أما الماضي فليس معناه جملة الإنجازات المعبر عنها - بتراث الأوائل - بكل ما يحمل في طياته من سلبيات وإيجابيات، وإنما هو الطاقات أو القيم المحركة الكامنة فيه، التي خلقت أصالته، والقادرة على عملية الخلق الحضاري وتطويره باستمرار، وبعبارة أخرى، إن الدعوة التي استلهمها من الماضي دعوة للعودة إلى الينابيع الأولى التي حاكت هذا الماضي، مع الاحتراز من الانحرافات التي شهدها وكانت السبب في تقويضه.
وكما قال الدكتور مهدي فضل الله (1):
" بعض من أدعياء المعرفة يهزأ بماضينا المجيد، ليس ذلك فحسب، إنما يمعن قدحا في من يحاول إحياءه. لهؤلاء يمكن القول:
كما إن الإنسان وحدة لا تتجزأ، كذلك التاريخ والعلم والمجتمع والعقيدة فالكل من الجزء والجزء من " ما صدق " الكل ومن خاصيته. من هنا تكون عملية الجذب الدائم باستمرار بين الماضي والحاضر والمستقبل، كما هو بين الجوهر والعرض، والعدل والعدالة والحق والحقيقة، والوجود والموجود، والعلة والمعلول. ومن هنا يتراءى لنا أن صرف النظر عن الماضي من المحال، لأنه صرف عن الزمان، وصرف عن الذات، والزمان