ومن هنا تبين كيف أن التحريف لم يخدم فقط الواجهة السياسية. بل انعكس ذلك أيضا على فلسفة التاريخ وعلى مناهج التاريخ وشخصية المؤرخ. فبعض المؤرخين تألق نجمهم وتلألأ في سماء التراث الإسلامي. على الرغم من صغر حجمهم. ونبوغ غيرهم، ذلك بأن المؤرخ كان نفسه يعاني أخطر محنة في الماضي وأن مهنة التاريخ كانت أخطر مهنة يمكن تصورها ساعتئذ. ومن هنا كانت الشهرة والألمعية من شأن المؤرخين المتزلفين للبلاط والمدافعين عن نهج الخلفاء. تعطى لهم الامتيازات بسخاء، وتقدم لهم المناصب على أطباق من ذهب. في حين انطفأ فيه نجم النابغين الذين أفنوا حياتهم في العلم وبرعوا في هذه الصناعة. وترفعوا عن الاختلاف إلى أبواب الخلفاء.
فكل ذلك كان بسبب ما تقتضيه السياسة من تحريف الحقائق وتزوير الأحداث بما يتفق مع نهجها السياسي أو هواها السلطاني. وما تلزمه تلك العملية من تقريب المتزلفين وتهميش العلماء المستقلين.
وعلى الرغم من كل ذلك يبقى التاريخ ضرورة لا غناء عنها فالنظر في أحوال الماضي ضرورة علمية لا مناص من مزاولتها. لأنها وحدها كفيلة بأن تطلعنا على حقيقة ما جرى في الماضي لفهم ما يجري في الحاضر. وفيما يتعلق بالتراث الإسلامي، لا بد من تركيز الاهتمام بالتاريخ ومناهجه وكيفية ضبط الوثائق ونقدها وتحليل حفرياته. لسببين بسيطين:
الأول: لأن الرواية - وهي شأن تاريخي تعتبر أساسا لكل ما له علاقة بالإسلام.
من فقه وأصول وكلام وتفسير ولغة و...
فالقرآن وهو أهم مصدر في الثقافة الإسلامية لم يكن يهم الأجيال فيما لو كانت الرواية التاريخية لا أهمية لها على المستوى العلمي. فالقرآن وصل عبر الرواية والمصاحف المعمول بها اليوم تعتمد على رواة تاريخيين. هذا بالإضافة إلى السنة المدونة التي ابتدأت بالرواية ولا زالت فالتاريخ نافذة ضرورية لا مهرب من أحكامها.