ولكن لا يفقهون تسبيحها، لأنهم لم يسافروا من مضيق سمع الظاهر، إلى فضاء سمع الباطن، ومن ركاكة لسان المقال، إلى فصاحة لسان الحال، ومن يسافر ليستقرئ هذه الشهادات، من الأسطر المكتوبة بالخطوط الإلهية على صفحات الجمادات، لم يطل سفره بالبدن، بل يستقر في موضع، ويفرغ قلبه للتمتع بسماع نغمات التسبيحات من آحاد الذرات!!...
ويقول الغزالي إن طول الأمل، له سببان أحدهما الجهل (إذ قد يعول الإنسان على شبابه، فيستبعد قرب الموت) والآخر حب الدنيا، لأنه إذا أنس بها، ثقل على قلبه مفارقتها، فامتنع من الفكر في الموت، فيمني نفسه أبدا بما يوافق مراده، ويقدر توابع البقاء، وما يحتاج إليه من مال وأهل وولد ودار وأصدقاء، فيصير قلبه عاكفا على هذا الفكر، فيلهو عن ذكر الموت، فلا يقدر قربه، فإن خطر له في بعض الأحوال أمر الموت، والحاجة إلى الاستعداد له، سوف ووعد نفسه "، فلا يزال يسوف ويؤخر على التدريج، يوما بعد يوم، إلى أن تخطفه المنية في وقت لا يحتسبه، فتطول عند ذلك حسرته!، وتبدو له صفحة ملك الموت - جميلة الصورة للمطيع، قبيحة للعاصي - ولن تخرج روحه، ما لم يسمع نغمة ملك الموت، بإحدى البشريين إما الجنة أو النار!
ومعنى الموت تغير حال فقط، إذ الروح باقية، بعد مفارقة الجسد، إما معذبة وإما منعمة، ومعنى مفارقتها للجسد انقطاع تصرفها عنه بخروجه عن طاعتها، والروح تعلم الأشياء بنفسها من غير آلة، فكل ما هو وصف للروح بنفسها، فيبقى معها بعد مفارقة الجسد، وما هو لها بواسطة الأعضاء، فيتعطل، إلى أن تعاد الروح إلى الجسد، ولا يبعد أن تعاد الروح إلى الجسد في القبر، ولا يبعد أن تؤخر إلى يوم البعث، والله أعلم بما حكم به على كل عبد من عباده! وكل الأعضاء آلات، والروح هي المستعملة لها ومهما بطل تصرفها في الأعضاء، لم تبطل منها العلوم والإدراكات، ولا بطل منها الأفراح والغموم، ولا بطل منها قبولها للآلام واللذات، والإنسان بالحقيقة هو المعنى المدرك للعلوم والآلام واللذات، وذلك لا يموت، فالموت زمانة مطلقة في الأعضاء كلها، وحقيقة