الثقافة الروحية في إنجيل برنابا - محمود علي قراعة - الصفحة ٣٥٨
أما الغفلة عن النعم فلها أسباب، وأحد أسبابها أن الناس بجهلهم، لا يعدون ما يعم الخلق ويسلم لهم في جميع أحوالهم نعمة، فلا تراهم يشكرون الله على روح الهواء، ولو أخذ بمختنقهم لحظة حتى انقطع الهواء عنهم ماتوا، فإن ابتلي واحد منهم ثم نجا، ربما قدر ذلك نعمة وشكر الله عليها، وهذا غاية الجهل إذ صار شكرهم موقوفا على أن تسلب عنهم النعمة ثم ترد عليهم في بعض الأحوال، والنعمة في جميع الأحوال أولى بأن تشكر في بعضها، فصار الناس لا يشكرون إلا المال الذي يتطرق الاختصاص إليه من حيث الكثرة والقلة، وينسون جميع نعم الله تعالى، والعلاج أن ينظر الإنسان إلى من دونه، وأن يعرف أن النعمة (ظاهرة أو باطنة)، إذا لم تشكر زالت.
ويرجع الصبر في الدنيا، إلى ما ليس ببلاء مطلقا، بل يجوز أن يكون نعمة من وجه، فلذلك يتصور أن يجتمع عليه وظيفة الصبر والشكر، والشئ الواحد قد يغتم به من وجه (فيصبر عليه)، ويفرح به من وجه آخر (فيشكر عليه)، وفي كل فقر ومرض وخوف وبلاء في الدنيا خمسة أمور، ينبغي أن يفرح العاقل بها ويشكر عليها، وهي: أن مصيبته يتصور أن يكون أكبر منها، وأنه كان يمكن أن تكون مصيبة في دينه (بكفر أو معصية أشد أو خاطر سوء)، وأنه ربما عجلت عقوبته في الدنيا (ومن عجلت عقوبته، فلا يعاقب ثانيا، ومصائب الدنيا يتسلى عنها بأسباب أخرى تهون المصيبة، فيخف وقعها) وأنها كانت مكتوبة عليه (وقد وصلت واستراح من بعضها أو من جميعها، فهذه نعمة)، وأن ثوابها أكثر، فعليه أن يحسن الظن بالله تعالى ويقدر فيه الخيرة الدينية ويشكره عليه، على أن مواتاة النعم وفق المراد من غير امتزاج ببلاء، تورث طمأنينة القلب إلى الدنيا وأسبابها وأنسه بها، وأما التألم فضروري (والدواء النافع مؤلم (1))!
* * *

(1) راجع ص 83 - 90 من الثقافة الروحية في كتاب إحياء علوم الدين للغزالي لمحمود علي قراعة.
(٣٥٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 353 354 355 356 357 358 359 360 361 362 363 ... » »»