الفجر الصادق - جميل صدقى الزهاوي - الصفحة ٣٢
وأثبت لهم أن ذلك مناف للألوهية عند العقل قالوا في الجواب لا مجال للعقل الحقير البشري في مثل هذه الأمور التي طورها فوق طور العقل فأشبهوا في ذلك النصارى في دعوى التثليث فإنك إذا سألتهم قائلا كيف يكون الثلاثة واحدا والواحد ثلاثة قالوا إن معرفة هذا فوق طور العقل ولا يجوز إعمال الفكر في ذلك لا ريب أنه إذا تعارض العقل والنقل أول النقل العقل إذ لا يمكن حينئذ الحكم بثبوت مقتضى كل منهما لما يلزم عنه من اجتماع النقيضين ولا بانتفاء ذلك لاستلزامه ارتفاع النقيضين لكن بقي أن يقدم النقل على العقل أو العقل علي النقل والأول باطل لأنه إبطال للأصل بالفرع وإيضاحه أن النقل لا يمكن إثباته إلا بالعقل وذلك لأن إثبات الصانع ومعرفة النبوة وسائر ما يتوقف صحة النقل عليه لا يتم إلا بطريق العقل فهو أصل للنقل الذي تتوقف صحته عليه فإذا قدم علي العقل وحكم بثبوت مقتضاه وحده فقد أبطل الأصل بالفرع ويلزم منه إبطال الفرع أيضا إذ تكون حينئذ صحة النقل متفرعة على حكم العقل الذي يجوز فساده وبطلانه فلا يقطع بصحة النقل فلزم من تصحيح النقل بتقديمه على العقل عدم صحته وإذا كان تصحيح الشئ منجرا إلى إفساده كان مناقضا لنفسه فكان باطلا فإذا لم يكن تقديم النقل علي العقل بالدليل السابق فقد تعين تقديم العقل علي النقل وهو المطلوب إذا علمت هذا تبين لك جليا وجوب تأويل ما عارض ظاهره العقل من الآيات القرآنية التي هي ظواهر ظنية لا تعارض اليقينيات إما تأويلا إجماليا ويفوض تفصيله إلى الله تعالى كما هو مذهب أكثر السلف وإما تفصيليا كما هو مذهب أكثر الخلف فالاستواء في قوله تعالى (الرحمن على
(٣٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 ... » »»