شرح المقاصد في علم الكلام - التفتازاني - ج ٢ - الصفحة ١٥٠
ارتكاب أقل القبحين تخلصا عن ارتكاب الأقبح فالواجب الحسن هو الاتجاه لا الكذب وهذا إذا سلمنا عدم إمكان التخليص بالتعريض وإلا ففي المعاريض مندوحة عن الكذب والجواب أن هذا الكذب لما تعين سببا وطريقا إلى الانجاء الواجب كان واجبا فكان حسنا وأما القتل ومحصلة الضرب حدا فأمرهما ظاهر الرابع لو كان الحسن والقبح ذاتيين ألزم اجتماع المتنافيين في أخبار من قال لأكذبن غدا لأنه إما صادق فيلزم لصدقه حسنه ولاستلزامه الكذب في الغد قبحه وإما كاذب فيلزم لكذبه قبحه ولاستلزامه ترك الكذب في الغد حسنه وقد يقرر اجتماع المتنافيين في إخبار الغدي كاذبا فإنه لكذبه قبيح ولاستلزامه صدق الكلام الأول حسن أو لأنه أما حسن فلا يكون القبح ذاتيا للكذب وإما قبيح فيكون تركه حسنا مع استلزامه كذب الكلام الأول وهو قبيح ومبنى الاستلزام على انحصار الإخبار الغدى في هذا الواحد وقد يقرر بأنه إما صادق وإما كاذب وأيا ما كان يلزم اجتماع الحسن والقبح فيه ومبنى الكل على أن ملزوم الحسن حسن وملزوم القبيح قبيح وإن كل حسن أو قبح ذاتي ويمكن تقرير الشبهة بحيث يجتمع الصدق والكذب في كلام واحد فيجتمع الحسن والقبح وذلك إذا اعتبرنا قضية يكون مضمونها الإخبار عن نفسها بعدم الصدق فيتلازم فيها الصدق والكذب كما تقول هذا الكلام الذي أتكلم به الآن ليس بصادق فإن صدقها يستلزم عدم صدقها وبالعكس وقد يورد ذلك في صورة كلام غدي وأمسي فيقال الكلام الذي أتكلم به غدا ليس بصادق أو لا شيء مما أتكلم به غدا بصادق خارجية ثم يقتصر في الغد على قوله ذلك الكلام الذي تكلمت به أمس صادق فإن صدق كل من الكلام الغدى والأمسى يستلزم عدم صدقهما وبالعكس وهذه مغلطة تحير في حلها عقول العقلاء وفحول الأذكياء ولهذا سميتها مغلطة جذرالأصم ولقد تصفحت الأقاويل فلم أظفر بما يروى الغليل وتأملت كثيرا فلم يظهر إلا أقل من القليل وهو أن الصدق أو الكذب كما يكون حالا للحكم أي للنسبة الإيجابية أو السلبية على ما هو اللازم في جميع القضايا فقد يكون حكما أي محكوما به محمولا على الشيء بالاشتقاق كما في قولنا هذا صادق وذاك كاذب ولا يتناقضان إلا إذا اعتبرا حالين لحكم واحد أو حكمين على موضوع واحد بخلاف ما إذا اعتبر أحدهما حالا للحكم والآخر حكما لاختلاف المرجع اختلافا جليا كما في قولنا السماء تحتنا صادق أو كاذب أو خفيا كما في الشخصية التي هي مناط المغلطة فإما إذا فرضناها كاذبة لم يلزم الا صدق نقيضها وهو قولنا هذا الكلام صادق فيقع الصدق حكما للشخصية لا حالا لحكمها وإنما حال حكمها الكذب على ما فرضنا والصدق حال للنسبة الإيجابية التي هي حكم النقيض وحكم للشخصية التي هي الأصل فلم يجتمعا حالين لحكم ولا حكمين لموضوع وكذا إذا فرضناها صادقة وحينئذ فلعل المجيب يمنع تناقض الصدق والكذب المتلازمين بناء على رجوع أحدهما إلى حكم الشخصية والآخر إلى موضوعها لكن
(١٥٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 145 146 147 148 149 150 151 152 153 154 155 ... » »»