في آخر الآية بنفي مشيئة هدايتهم وأنه لو شاء لفعل البتة إزالة للوهم الذي ذهب إليه المستدل السابع قوله تعالى * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * دل على أنه أراد من الكل الطاعة والعبادة لا المعصية ورد بعد تسليم دلالة لام الغرض على كون ما بعدها مرادا بمنع العموم للقطع بخروج من مات على الصبا أو الجنون فليخرج من مات على الكفر ولو سلم فليس المقصود بيان خلقهم لهذا الغرض بل بيان استغنائه عنهم وافتقارهم إليه بدليل قوله تعالى * (ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون) * فكأنه قال وما خلقتهم لينفعوني بل لأمرهم بالعبادة أو ليتذللوا إلي أما بالنسبة إلى المطيع فظاهر وأما بالنسبة إلى العاصي فبشهادة الفطرة على تذلله وأن تخرص وافترى كذا في الإرشاد لإمام الحرمين وذهب كثير من أهل التأويل إلى أن المعنى ليكونوا عبادا لي فتكون الآية على عمومها على أنها يعارضها قوله تعالى * (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس) * وقوله تعالى * (إنما نملي لهم ليزدادوا إثما) * وجعل اللام للعاقبة كما في قوله تعالى * (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) * إنما يصح في فعل من يجهل العواقب فيفعل لغرض فلا يحصل ذلك بل ضده فيجعل كأنه فعل الفاعل لهذا الغرض الفاسد تنبيها على خطئه وكيف يتصور في علام الغيوب أن يفعل فعلا لغرض يعلم قطعا أنه لا يحصل البتة بل يحصل ضده والعجب من المعتزلة كيف لا يعدون ذلك سفها وعبثا الثامن قوله تعالى * (كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها) * جعل المنهيات مكروهة فلا تكون مرادة لأن الإرادة والكراهة ضدان ورد بعد تسليم كونه إشارة إلى المنهيات الواقعة ليلزم كونها مرادة بأن المعنى أنها مكروهة عند الناس وفي مجاري العادات لا عند الله تعالى فيلزم المحال وإما جعل المكروه مجازا عن المنهى فلغو من الكلام لكون ذلك إشارة إلى المنهى (قال المبحث الثالث) في الحسن والقبح جعل هذا من مباحث أفعال الباري تعالى مع أنها لا تتصف بالحسن والقبح بالمعنى الذي يذكره أعني المأمور به والمنهي عنه نظرا إلى انهما بخلقه ومن آثار فعله وإلى أنهما بتفسير الخصم يتعلقان بأفعال الباري إثباتا ونفيا وقد اشتهر أن الحسن والقبح عندنا شرعيان وعند المعتزلة عقليان وليس النزاع في الحسن والقبح بمعنى صفة الكمال والنقص كالعلم والجهل وبمعنى الملائمة للغرض وعدمها كالعدل والظلم وبالجملة كل ما يستحق المدح أو الذم في نظر العقول ومجاري العادات فإن ذلك يدرك بالعقل ورد الشرع أم لا وإنما النزاع في الحسن والقبح عند الله تعالى بمعنى استحقاق فاعله في حكم الله تعالى المدح أو الذم عاجلا والثواب والعقاب آجلا ومبنى التعرض للثواب والعقاب على أن الكلام في أفعال العباد فعندنا ذلك بمجرد الشرع بمعنى أن العقل لا يحكم بأن الفعل حسن أو قبيح في حكم الله تعالى بل ما ورد الأمر به فهو حسن وما ورد النهي عنه فقبيح من غير أن يكون للعقل جهة محسنة أو مقبحة في ذاته ولا بحسب جهاته واعتباراته حتى لو أمر
(١٤٨)