واعتماد القدرية على أن أفعال العباد واقعة على وفق مقصودهم ودواعيهم وهما متعارضان ومن الإلزامات الخطابية أن القدرة على الإيجاد صفة كمال لا تليق بالعبد الذي هو منبع النقصان وأن أفعال العباد تكون سفها وعبثا فلا تليق بالمتعالي عن النقصان وأما الدلائل السمعية فالقرآن مملوء بما يوهم بالأمرين وكذا الآثار فإن أمة من الأمم لم تكن خالية من الفرقتين وكذا الأوضاع والحكايات متدافعة من الجانبين حتى قيل أن وضع النرد على الجبر ووضع الشطرنج على القدر إلا أن مذهبنا أقوى بسبب أن القدح في قولنا لا يترجح الممكن إلا بمرجح يوجب انسداد باب إثبات الصانع ونحن نقول الحق ما قال بعض أئمة الدين أنه لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين وذلك لأن مبنى المبادي القريبة لأفعال العباد على قدرته واختياره والمبادي البعيدة على عجزه واضطراره فإن الإنسان مضطر في صورة مختار كالقلم في يد الكاتب والوتد في شق الحائط وفي كلام العقلاء قال الحائط للوتد لم تشقني فقال سل من يدقني (قال وأفعاله بقضاء الله تعالى) قد اشتهر بين أكثر الملل أن الحوادث بقضاء الله تعالى وقدره وهذا يتناول أفعال العباد وأمره ظاهر عند أهل الحق لما تبين أنه الخالق لها نفسها أو الخالق للقدرة والداعية الموجبتين لها فمعنى القضاء والقدر الخلق والتقدير كما في قوله تعالى * (فقضاهن سبع سماوات) * وقوله تعالى * (وقدر فيها أقواتها) * ولا يستقيم هذا عند القدرية وقد يكون القضاء والقدر بمعنى الإيجاب والإلزام كما في قوله تعالى * (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) * وقوله تعالى * (نحن قدرنا بينكم الموت) * فيكون الواجبات بالقضاء والقدر دون البواقي وقد يراد بهما الإعلام والتبيين لقوله تعالى * (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض) * الآية وقوله تعالى * (إلا امرأته قدرناها من الغابرين) * أي أعلمنا بذلك وكتبناه في اللوح فعلى هذا جميع الأفعال بالقضاء والقدر وقالت الفلاسفة لما كانت جميع صور الموجودات الكلية والجزئية حاصلة من حيث هي معقولة في العالم العقلي بإبداع الأول الواجب إياها وكان إيجاد ما يتعلق منها بالمادة في المادة مختلفا على سبيل الإبداع ممتنعا إذ هي غير متأتية لقبول صورتين معا فضلا عن أكثر وكان الجود الإلهي مقتضيا لتكميل المادة بإبداع تلك الصور فيها وإخراج ما فيها بالقوة من قبول تلك الصور إلى الفعل قدر بلطيف حكمته زمانا يخرج فيه تلك الأمور من القوة إلى الفعل فالقضاء عبارة عن وجود جميع الموجودات في العالم العقلي مجتمعة ومجملة على سبيل الإبداع والقدر عبارة عن وجودها في موادها الخارجية مفصلة واحدا بعد واحد كما قال عز من قائل * (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) * قالوا دخول الشر في القضاء الإلهي على سبيل التبع فإن الموجود إما خير محض كالعقول والأفلاك أو الخير غالب عليه كما في هذا العالم فإن المرض وإن كثر فالصحة أكثر منه ولما امتنع عقلا إيجاد ما في هذا العالم مبرأ عن الشرور بالكلية فإن
(١٤٢)