أجمعوا على تنفيذ ما خططوا إليه من إخفاءه في نهاية الأزمة النفسية التي يعيشونها كل يوم بل كل لحظة يرون فيها أباهم يهتم بأمر يوسف، فأجمعوا على رميه في البئر لينهوا كل ذلك بهذا العمل الإجرامي الذي يعتبرونه نفيا لشخصه وإنساءا لاسمه وإطفاءا لنوره وتذليلا له وحطا لقدره وهو في الواقع تقريب له إلى أريكة العزة وعرش المملكة وإحياء لذكره وإتمام نوره ورفع قدره وهم لا يشعرون بتلك الحقيقة (1) * (فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون) * (2) فرموه في تلك الغيابات التي لا يخرج منها إلا من كان مع الله في كل لحظات، حياته فهي المرحلة الأولى للإعداد التي واجهها يوسف (عليه السلام)، إنها مرحلة الظلام الدامس التي تجعل الإنسان يشعر بالخوف بمجرد تصور تلك المواقع، ولكن أنبياء الله عاشوا تحت كنف الله تعالى ورعايته فهم الرسل الذين يمثلون الله بين خلقه وهم الواسطة بين الأرض والسماء وهم حبل الله الممدود الذي يهدي من تعلق به ويضل من لم يتمسك به.
فجلس يوسف في ذلك الجب مطمئنا بالمعية الإلهية التي لم تفارقه أبدا وعاد أخوته إلى أباهم، عادوا وعلامات الحزن الكاذب تملأ وجوههم، عادوا وهم يحملون القميص الملطخ بالدماء الذي أصبح حجة دامغة عليهم.
* (وجاءوا أباهم عشاءا يبكون قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين) * * (وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) * (3) وبالفعل مثلما قالوا * (وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين) * فلم يؤمن لهم، وتوجه يعقوب (عليه السلام) إلى ربه ليلهمه الصبر على هذا الخطب الجليل، ففي هذا المقطع من القصة يتضح لنا أمران:
الأول: - المعية الإلهية حتى في أحرج المواقف صعوبة، والتعلق القلبي الحقيقي