إباؤه وشرف نفسه:
اشتهر شيخنا الظاهر في الأوساط المختلفة بالشمم والإباء منذ نشأته، فقد طبع على العفة والترفع عما في أيدي الناس، فلم يسمع عنه وقد بلغ التسعين من عمره أنه تنازل لزعيم دينا أو تواضع لرجل مال، أو تملق إلى أحد كائنا من كان، بل احتقر المادة ومن يعبدها، وتعفف وإن كان مقلا حفظا لكرامته من الابتذال وصيانة لشرفه وماء وجهه... وأكبر شاهد على ذلك ما رواه تلميذه الأديب الكبير محمد علي حوماني فقد كتب يقول:
" من هؤلاء الفقراء الذين يتيهون على الأغنياء ثقة بالله الشيخ سليمان الظاهر من علماء النبطية في جبل عامل، وكان هو وزميله الشيخ أحمد رضا رحمهما الله كالفرقدين لا يفارق أحدهما الآخر، وكانا عاملين للعروبة والإسلام طوال ستين عاما بما أحرزاه من علم وأدب وفن. أعرف الشيخ الأول عافيا مقلا يكاد الصبر يضيق به على بلائه، حتى باع داره ليتفادى بثمنها الزهيد أيام الحرب العالمية الأولى التي أكلت بويلها الحرق والنسل، حتى أغلق الناس أبوابهم على أنفسهم ليموتوا جوعا إذا كانوا فقراء، ولينقذوا أنفسهم من الموت إذا كانوا أغنياء، إلا شيخنا فلم يغير سمته ووقاره وتعففه، إذ كان يخرج كل يوم ويجلس إلى زميله الموسر في متجره دون أن يلحظ عليه زميله ما يضغط صدره من البؤس، ودون أن يظهر عليه غير الآباء والتعفف.
وأعرف أنه كان وهو يجلس إلى زميله هذا أمام التجر، فيمر بهما بعض أعيان البلدة أو زعمائها فيلقي بالسلام فيردان معا سلام العابر، وكان الشيخ الرضا يقف لبعضهم أحيانا تجلة وهيبة، وأما شيخنا الظاهر فكان لا يتزحزح من مقعده إلا إذا دنا الزعيم المتعالي ليصافحه، على أني كنت أشعر من خفاء أن بعض أصدقائه يتقرب إلى الحق والعلم ببره وإكرامه سرا، فينكر الشيخ عليه ذلك حتى يترامى صديقه بين يديه ويرجوه قبول الهدية فيقبلها آنفا خجولا متعففا " (1).