ولقد كانت قالت له، حين أتته طالبة بحقها ومحتجة برهطها: من يرثك يا أبا بكر إذا مت؟ قال: أهلي وولدي، قالت: فما بالنا لا نرث النبي صلى الله عليه وآله، فلما منعها ميراثها وبخسها حقها واعتل عليها وخلج في أمرها، وعاينت التهضم وأيست من النزوع ووجدت مس الضعف وقلة الناصر قالت والله لأدعون الله عليك، قال: والله لأدعون الله لك قالت: والله لا أكلمك أبدا، قال: والله لا أهجرك أبدا. فإن يكن ترك النكير على أبي بكر دليلا على صواب منعه كان في ترك النكير على فاطمة عليها السلام دليلا على صواب طلبها، وأدنى ما كان يجب عليهم في ذلك تعريفها ما جهلت وتذكيرها ما نسيت وصرفها عن الخطاء ورفع قدرها عن البذاء وأن تقول هجرا أو تجور عادلا أو تقطع واصلا، فإذا لم نجدهم أنكروا على الخصمين جميعا، فقد تكافأت الأمور واستوت الأسباب، والرجوع إلى أصل حكم الله في المواريث أولى بنا وبكم وأوجب علينا وعليكم.
ثم قال: فإن قالوا كيف يظن بأبي بكر ظلمها والتعدي عليها، وكلما ازداد فاطمة عليها السلام عليه غلظة ازداد لها لينا ورقة، حيث تقول: والله لا أكلمك أبدا فيقول:
والله لا أهجرك أبدا ثم تقول: والله لأدعون عليك، فيقول: والله لأدعون الله لك.
ثم يحتمل هذا الكلام الغليظ والقول الشديد في دار الخلافة وبحضرة قريش والصحابة، مع حاجة الخلافة إلى البهاء والرفعة، وما يجب لها من التنويه والهيبة، ثم لم يمنعه ذلك أن قال متعذرا أو متقربا كلام المعظم لحقها المكبر لمقامها والصاين لوجهها والمتحنن عليها، ما أحد أعز علي منك فقرا ولا أحب إلي منك غنا، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه فهو صدقة.
قيل لهم: أليس ذلك بدليل على البراءة من الظلم والسلامة من الجور (العمد - خ م) وقد يبلغ من مكر الظالم ودهاء الماكر إذا كان أريبا وللخصومة معتاد أن يظهر كلام لمظلوم وذلة المنتصف وجدة [وحدب] الوامق المحق، إنتهى كلام الجاحظ (5)