أبرد هشام بريدا وكتب معه إلى جميع عماله ما بين دمشق إلى يثرب يأمرهم ان لا يأذنوا لأبي في شئ من مدينتهم، ولا يبايعوه في أسواقهم، ولا يأذنوا له في مخالطه أهل الشام حتى ينفذ إلى الحجاز، فلما انتهى إلى مدينه مدين ومعه حشمه، واتاهم بعضهم فأخبرهم ان زادهم قد نفد، وانهم قد منعوا من السوق، وان باب المدينة أغلق.
فقال: أبي فعلوها؟ ائتوني بوضوء فاتى بماء، فتوضأ ثم توكأ على غلام له، ثم صعد الجبل حتى إذا صار في ثنيه استقبل القبلة، فصلى ركعتين، فقام وأشرف على المدينة، ثم نادى بأعلى صوته، وقال: ﴿وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من اله غيره و لا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط * ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين * بقيه الله خير لكم ان كنتم مؤمنين﴾ (1) ثم وضع يده على صدره، ثم نادى بأعلى صوته: انا والله بقيه الله، انا والله بقيه الله، قال: وكان في أهل مدين شيخ كبير قد بلغ السن وأدبته التجارب، وقد قرا الكتب، وعرفه أهل مدين بالصلاح، فلما سمع النداء قال لأهله:
أخرجوني فحمل ووضع وسط المدينة، فاجتمع الناس إليه، فقال لهم: ما هذا الذي سمعته من فوق الجبل، قالوا: هذا رجل يطلب السوق فمنعه السلطان من ذلك وحال بينه وبين منافعه، فقال لهم الشيخ؟: تطيعونني؟ قالوا: اللهم نعم، قال: قوم صالح انما ولى عقر الناقة منهم رجل واحد، وعذبوا جميعا على الرضا بفعله، وهذا رجل قد قام مقام شعيب، ونادى مثل نداء شعيب صلوات الله عليه، وهذا رجل ما بعده، فارفضوا السلطان وأطيعوني و أخرجوا إليه بالسوق فاقضوا حاجته، والا لم آمن والله عليكم الهلكة، قال: ففتحوا الباب وأخرجوا السوق إلى أبي، فاشتروا حاجتهم ودخلوا مدينتهم، وكتب عامل هشام إليه بما فعلوه، وبخبر الشيخ، فكتب هشام إلى عامله بمدين بحمل الشيخ إليه، فمات في الطريق رضي الله عنه (2).